أهلا وسهلاً بك في موقع مكتبتك.. هنا ستجد مقالات متنوعة في عدة أقسام.. يكفي ان تختار مكتبتك الخاصة وابدأ في القراءة :)

H.D.M.kali.ânon.dz

H.D.M.MAN.213

Daoudi hasane


Anonymos

ستنظر إلى خريطة عالمك بتمعًّن.. ستبحث في أرجائها عنِّي.. لكنك لن تجدني.. رغم أن عالمك يحترق عن بكرة أبيه.. لكنك لن تجدني.. فأنت تنظر إلى الخريطة الخطأ.. ها أنت ذا تتدارك نفسك وتزيح هذه الخريطة الجغرافية جانبًا وتفتح خريطة أخرى.. خريطة تاريخية.. وتنظر في أرجائها بتمعُّن.. ومرة أخرى لم تجدني.. هنا تقرر أن يتخذ بحثك صبغة رقمية.. فتفتح أقرب جهاز كمبيوتر إليك وتنظر إلى شاشته الحديثة في اهتمام.. ها أنت قد أحضرت الخريطة التاريخية إلى الشاشة.. وكنوع من التأثيرات الرقمية المحببة إليك أوقد لك الكمبيوتر نيرانًا في أماكن بعينها من الخريطة.. نظرت إلى النيران بعين اتقدت حماسًا.. أنت تراني الآن.. تراني أزحف على خريطة عالمك ببطءٍ.. صغيرًا كنتُ في البداية.. حتى تقع إحدى نقاط الخريطة بين أنيابي.. فألتهمها.. فيكبر حجمي..

ما هو الهكر

ما هو الهكر

هو الهكر إنّ مصطلح الهكر أو الاختراق (بالإنجليزية: Hacker, Hacking) يشير تاريخياً إلى الذكاء، والتفكير الاستنتاجيّ، ولم يكن مقترناً فقط بأنظمة الحاسب الآلي وشبكة الإنترنت، وفي عالم الحاسب الآلي أو الكمبيوتر وشبكات الإنترنت، تعتبر القرصنة أي جهد تقني يبذله الشخص للتلاعب، والتحكم بسير المنظومة الطبيعيّ للشبكات أو الأجهزة، وبالتالي فإنّ القرصان أو المخترق هو الشخص المسؤول عن عمليّة الاختراق، والتلاعب بخطّ سير عمل الأجهزة والشبكات

اقرأ المزيد  
توزيعة termux imageتوزيعة termux image
Termux هو تطبيق مجاني ومفتوح المصدر يقوم بمحاكاة واجهة الأوامر المستَخدمة في نظام تشغيل Linux. وعن طريق القيام بذلك، يمكنك إدخال جميع الأوامر المعتادة والعمل بشكل مريح من خلال جهاز أندرويد الخاص بك.

يحتوي التطبيق على تحديثات عديدة من تطبيق Android Terminal Emulator الكلاسيكي، مثل إمكانية النفاذ إلى مكتبة ضخمة من باقات Linux لتثبيت البرامج مباشرة من الجهاز، بالإضافة إلى بعض مختصرات لوحة المفاتيح التي تم تحديثها لتشكل توليفات مع أزرار التحكم بالصوت وأزرار الغلق/الفتح. كما إنها متوافقة مع مختلف أنواع لوحات المفاتيح الخارجية.

فسواء كنت تعمل مع con NodeJS، أو Ruby، أو Python أو كنت مضطرًا للاتصال بخوادم عبر SSH، فإن Termux يمكنه مساعدتك بفضل قدرته على إدارة الباقات كما لو كنت جالسًا أمام جهاز الكمبيوتر على سطح المكتب الخاص بك - ولكن مع تعددية مريحة في استخدام نظام تشغيل Linux على جهاز أندرويد بمكونات قوية بما يكفي لإتمام أي مهمة.
كالي لينكس.png

الشركة / المطورOffensive Security
حالة العملمستمر
إصدارات2018.3[1]  تعديل قيمة خاصية إصدار (P348) في ويكي بيانات
الرخصةرخصة جنو العمومية[2]  تعديل قيمة خاصية رخصة (P275) في ويكي بيانات
موقع ويبwww.kali.org

كالي لينكس (بالإنجليزية: Kali Linux) هي توزيعة لينكس مبنية على ديبيان، وهي متخصصة في الأمن والحماية المعلوماتية واختبار الاختراق(Penetration Testing)· تم الإعلان عن صدورها في 13 مارس 2013·[4]

توزيعة كالي هي عبارة عن إعادة بناء لتوزيعة باك تراك: حيث قام المطورون ببنائها على ديبيان بدلأبونتو، وهي مدعومة و ممولة من طرف Offensive Security Ltd·[5]


أدوات كالي لينكسعدل

توزيعة كالي لينكس متخصصة في الأمن والحماية المعلوماتية وتحتوي مسبقا على عدة برامج وأدوات موجهة لاختبار الاختراق·حيث تتضمن برامج تقوم بالمسح الأمني للمنافذ كإن ماب Nmap وبرامج لتحليل الحزم المتبادلة على الشبكات كواير شاركWireshark ، و برامج لكسر كلمات المرور كبرنامججون ذا ريبر John the Ripper، وطقم برامجايركراك-أن جي الخاص باختبار اختراق الشبكات المحلية اللاسلكية Wireless LANs و Burp Suite و OWASP و ZAP لفحص سلامة تطبيقات الويب، بالاضافة إلى أدوات أخرى لاختبارت أمنية متعددة·


كالي لينكس والبرمجيات الحرةعدل

كالي لينكس هي توزيعة حرة، تضم برمجيات حرة ومفتوحة المصدر تتوافق في مبدأها مع المبادئ الموجهة للبرمجيات الحرة.[6] يمكن الحصول على التوزيعة مجانا مباشرة من موقعها الرسمي·

بعد التحميل يمكن للمستعمل أن يشغل هذا النظامكقرص حي Live CD أو يو إس بي حي Live USB، أو يمكن تتثبته مباشرة على القرص الصلبللحاسوب أو استعماله كجهاز افتراضي. كما أنه يدعم استعمال منصة مشروع ميتاسبلوت و هي أدات لتنفيذ هجمات افتراضية اعتمادا على الثغرات.

لكالي لينكس صورة من 32 بت و 64 بت و التي تعمل على معالجات x86، كما لديها صورة تدعم معمارية ARM لاستعمالها على الأجهزة المحمولة ذات المواصفات الضعيفة والمتوسطة كأجهزة الكروم بوك من سامسونج.

كالي تعتمد على توزيعة ديبيان ويزي Wheezey. أغلب الحزم التي تستعملها كالي مأخوذة من مستودعات ديبيان.

باك تراك


 عائلة نظام التشغيلشبيه يونكسالنموذج المصدريمفتوح المصدرآخر إصدار ثابت5 R3 August 13, 2012إصدارات5.0 R3 (13 أغسطس 2012)[1]  طريقة التحديثlinoxمدير الحزمjargoالمنصةhackنمط النواةMonolithicواجهة المستخدم الرسوميةفلكس بوكس جنومالرخصةمتعددموقع ويبباك تراك لينكس كالي لينكس  تعديل 

باك تراك (بالإنجليزية: Back Track) هي توزيعةلينكس مبنية على سلاكس والتي بدورها مبنية على توزيعة سلاكوير, منذ الاصدار الرابع تم بناء التوزيعة على توزيعة اوبنتو وكان الاصدار الثالث اخر اصدار مبني على سلاكوير.والاصدار الخامس الأخير بني على أبونتو الاصدار العاشر·

منذ سنة 2013 تمت اعادة بناء باك تراك علىديبيان و قد أطلق اسم جديد عليه و هو كالي لينكس [2]·

وهي التوزيعة الخاصة بالأمن والحماية وتحتوي التوزيعة على أدوات مساعدة في مجال الامن والحماية, وتستخدم في اختبار الاختراق (بالإنجليزية: penetration testing) وهم الذين يقومون بفحص الشبكات وتستعمل أيضا عند اسأءة استخدامها كأداة قوية لخدمة المخترقين واختراق المواقع والسيرفرات. إن ادوات الباك تراك جميعها موجودة داخل ملف يدعى ال(pentest). وأكثر عملها بالأوامر، ومن أبرز استخداماتها تفحص الأمن في شبكات اللاسلكي والسلكي إذ أن أكثر أدوات باك تراك تختص بفحص الشبكات وخصوصاً اللاسلكية منها، وكذلك اختراقها في أقصر الأوقات، كما أنها متخصصة أيضا في اختراق الأجهزة على الشبكة وتحتوي على ادوات لفحص المواقع من الثغرات الامنية وادوات لكسر وتخمين كلمات السر المشفرة وادوات الهندسة الاجتماعية ويحتوي أيضا على مشروع الميتاسبلويت وهو من أهم مشاريع اختبار الاختراق. معظم مختبري الاختراق يستخدموه لان ادواته مدفوعة ولقلة مشاكله. كما تضم باك تراك العديد من البرامج الأساسية والبسيطة الموجودة عادة في التوزيعات الأخرى.

الأدواتعدل

يشمل نظام الباك تراك العديد من الأدوات الأمنية المعروفة وهي كتالي:

ميتاسبلويت (ميتاسبلوت)حزمة الحقن (en)الاير كراك-ان جي (ايركراك-أن جي)إن مابإتركابإيثار ريال



شيطان بني إسرائيل

1350 بعد الميلاد – 1912 بعد الميلاد



فجأة أمطرت السماء جثثًا بشرية.. نظر سكان مدينة "كافا" الأوكرانية القديمة إلى سمائهم في ذلك اليوم نظرة من الطراز الذي تنظره إلى الهول ثم تدير رأسك وتفر هاربًا.. لقد كانت السماء تمطر جثثًا على رؤوسهم.. نظرت أنت إلى المشهد بتمعن.. حقًّا إنها جثث تتساقط.. ولكنك ترى بين هذه الجثث كيانًا معلّقًا في السماء.. لا تدري ما هو بالضبط.. عباءة سوداء يهز الهواء أطرافها كما ترى في مشاهد الأساطير.. الرأس يختفي في الظلام لأن العباءة تغطي الرأس أيضًا.. لكن الوجه واضح.. واضح باستفزاز.. الوجه كأنه قناع أبيض له ملامح ساخرة.. كان هذا الكيان معلقًا في الهواء تتطاير من ورائه جثث تُرمَى بسرعة هائلة فوق أسوار مدينة كافا لتمطر على السكان الذين يجرون هنا وهناك غير فاهمين لأي شيء. 

حتى تفهم هذا المشهد ينبغي أن تعرف أولًا أن مدينة كافا في هذه اللحظة كانت تغلق أسوارها على نفسها لأن المغول كانوا خارج الأسوار يحاصرون المدينة.. أيامها كان الطاعون الأسود قد بدأ ينتشر في آسيا.. وبدأ يصيب الجنود المغول الذين يحاصرون مدينة كافا.. وتحول غضب المغول إلى أول حرب بيولوجية في التاريخ.. وضعوا جثث جنودهم الميتين بالطاعون على المجانيق وأطلقوها تباعًا لتعبر فوق أسوار مدينة كافا وتسقط وسط أهلها الذين لم يفهموا الأمر في البداية.. ثم فهموه لمّا مات منهم عدد ضخم بالطاعون في الأيام التالية. 

إنه "ماستيم".. ذلك الكيان الأسود الساخر الذي رأيته يطير وسط الجثث.. وهاأنت تراه مرة أخرى يطير.. ولكن في سماء أخرى.. في أوروبا هذه المرة وتحديدا في مدينة بيزانسون الفرنسية.. لكنه هذه المرة لم يكن ساخرا.. بل كان حزينًا.. القناع الساخر الذي كان وكأنه يرتديه أصبح الآن قناعًا حزينًا.. كان يطير في السماء ناظرًا إلى مشهدٍ ربما هو الذي أحزنه.. كان هناك نفر كثير من رجال عراة الأقدام يلبسون ملابس من أكياس الخيش ويمسكون سياطًا يضربون بها اليهود في الشوارع وبداخل البيوت.. يضربونهم حتى سالت الدماء من جلودهم.. وحتى فارقت أرواحهم أجسادهم. 
_224_

كان حاملي السياط مسيحيين كاثوليكيين أوروبيين.. لماذا يضربون اليهود بالسياط؟ سأخبرك.. لما هرب الناس من مدينة كافا بعد أن رماهم المغول بوابلٍ من الجثث الطاعونية.. سكن الهاربون من المدينة في مختلف مدن أوروبا.. وحملوا معهم الطاعون إلى تلك المدن جميعها.. ولم تمضِ سنة واحدة إلا وعدد الوفيات قد زاد عن العشرة ملايين إنسان أوروبي.. ولم تنته السنة الثانية إلا وقد تضاعف هذا العدد ليصبح خمسة وعشرين مليون إنسانًا.. ثلث سكان أوروبا كلهم ماتوا.. كان من أصابه الطاعون يموت.. وكل من اختلط به ولو مرة يموت.. ومن حمله إلى القبر يموت.. كانت أيامًا رهيبة. 

وفقد الناس إيمانهم بالطب وبالرب وبالكنيسة وبكل شيء.. وانتشرت إشاعة لم يستطع أن يسيطر عليها أحد.. إشاعة تقول إن اليهود هم سبب الطاعون.. فهم سمموا الآبار والأنهار الأوروبية كلها بسبب كرههم للمسيحيين الكاثوليك الذين كانوا يضطهدونهم في ذلك الزمن.. وهجم الناس على اليهود هجوم الأكلة على قصعتها.. وأول من هجم على اليهود نفر من الناس يحملون السياط.. كان ذوي السياط هؤلاء قبل الإشاعة يمشون في الطرقات في مسيرات أسبوعية ويضربون أنفسهم حتى تخرج دماؤهم منهم.. عل الإله يخفف عن الناس أمر ذلك الوباء الذي قتل ثلث سكان أوروبا دفعة واحدة.. وبعد الإشاعة.. توقف هؤلاء عن ضرب أنفسهم وهجموا على اليهود بكل القسوة والغِل الساكن في قلوبهم. 

إن "ماستيم" يحزن وجهه كلما حدث اضطهاد لليهود في أي ناحية من نواحي الأرض.. إنه يذكر كيف كان حزينًا لما جُمع اليهود ورُبِطوا في ساحات مدينة نوريش الإنجليزية وحُرِقوا أحياء.. كان ذلك لأن المسيحيين اتهموهم بأنهم قاموا بالتضحية بالطفل المسيحي "ويليام" ليستخدموا دماءه في طقوس عيد الفصح اليهودي.. وقد تكررت تلك التهمة مرات ومرات في أوروبا وفي كل مرة يجمع اليهود فيها ويُقتَلون بدم باردٍ. 
_225_

ولازال "ماستيم" يتذكر حزنه أيام الحملة الصليبية الأولى.. لما فكر المسيحيون قليلًا وقالوا لأنفسهم.. نحن سنسافر عبر الأرض لقتال أعداء الصليب.. أليس أولى أن نقتل أعداء الصليب الذين يعيشون بيننا.. اليهود هم قتلة المسيح وأنصاره.. وهجموا على اليهود هجمة رجل واحد في مدينة مينز الألمانية وقتلوا ألفًا منهم دفعة واحدة.. وظلوا يقتلون فيهم حتى بردت دماؤهم وهدأت قلوبهم. 

وبقى وجه "ماستيم" حزينًا وهو يشاهد ألمانيا تطرد اليهود ثم تبعتها إنجلترا.. ثم فرنسا وإيطاليا والنمسا وسويسرا والمجر وهولندا.. ولم يجد اليهود لهم سكنًا في الأرض سوى في الأندلس.. التي كان المسلمون يحكمونها بالعدل.. واستقبلهم المسلمون وأكرموا وفادتهم وأعطوهم الأرض والسكن.. وحرية ممارسة الشعائر بعد أن كانوا يمارسونها في غرفهم المغلقة خوفًا وذعرًا.. حينها كنت ترى الشيطان اليهودي "ماستيم" يطير فوق الأرض الأندلسية وعلى وجهه مايشبه الابتسامة.. ولم تكن ساخرة هذه المرة بل كانت سعيدة. 

وفجأة غزا الصليبيون الأندلس واحتلّوها.. وطار "ماستيم" هذه المرة بوجه خائفٍ مما سيحدث لليهود.. ويبدو أن خوفه كان في محله.. فقد أجبر الصليبيون كل سكان الأندلس المسلمين أو اليهود على التنصر أو مغادرة البلاد.. وبالنسبة لمن تنصّروا فلم يتركهم الصليبيون في حالهم.. بل عقدت لهم حكومة إسبانيا محاكم تدعى محاكم التفتيش.. يُعدَم فيها كل من يشتبه بأنه تنصَّر ظاهريًا بينما هو مسلم أو يهودي في الخفاء.. وهاجر كل من رفض التنصر.. وبالنسبة لليهود.. فلم يجدوا لهم مكانًا يؤويهم بعد هروبهم من الأندلس إلا مكانًا واحدًا.. أراضي الدولة العثمانية الواسعة.. ومرة أخرى استقبلهم المسلمون وأكرموهم.. أدخلهم السلطان العثماني "سليمان القانوني" وأكرم وفادتهم.. ولكنه اشترط عليهم شرطًا صارمًا.. أن يسكنوا في أي أرضٍ من أراضي الدولة العثمانية شاءوا.. عدا أرض واحدة محرَّم عليهم دخولها والسكن فيها.. أرض فلسطين. 
_226_

ثم توقف الشيطان "ماستيم" لوهلة في السماء.. وأدار وجهه ناظرًا إلى مشهد أثار اهتمامه.. كان ينظر إلى شيطان آخر اقتحم أجواء الدولة العثمانية وتحديدًا في اسطنبول عاصمة الخلافة الإسلامية.. ذلك الشيطان كان مألوفًا.. إنه "سيربنت" الأفعى الغاوية.. يبدو أن دور بلاد العرب قد أتى.. وحان أوان إسقاطها.. كان "سيربنت" يخترق الأجواء متجها إلى قصر السلطان "سليمان القانوني" نفسه.. ودخل "سيربنت" إلى القصر.. دخل إلى التوب كابي العثماني.. ولم ينتظر الشيطان اليهودي "ماستيم" ثانية أخرى.. لقد دخل وراءه. دخل "ماستيم" إلى القصر العثماني بسرعة ليفاجئه مشهدٌ غريبٌ.. كانت السلطانة "ماه دوران" زوجة الخليفة تتعارك بالأيدي عراكًا عنيفًا جدًّا مع جارية تدعى "روكسلانا".. كانت "روكسلانا" هذه فاتنة تبدو وكأنها الفتنة مجسدة في أنثى.. وكان يبدو أنها تخسر هذا العراك.. فقد أدمت السلطانة وجهها.. وتدخلت أم الخليفة وفضت هذا العراك الحاد.. وفجأة دخل الخليفة "سليمان القانوني" لترتمي في حضنه الفاتنة "روكسلانا" باكية شاكية مشيرة بيدها الجميلة إلى جروح رقبتها ووجهها.. نظر السلطان بغضبٍ شديدٍ إلى السلطانة "ماه دوران" وأصدر عليها أمرًا قاسيًا نوعا ما.. لقد نفى السلطانة "ماه دوران" إلى قصر مانيسا.. نظر الشيطان "ماستيم" إلى الفاتنة "روكسلانا" التي كانت تمسك بالخليفة في ذِلة ومسكنة وعيناها تبتسمان من ورائه ابتسامة ساخرة لم يلحظها أحد.. ابتسامة تحكي الكثير. 

نظر الشيطان "ماستيم" إلى الأفعى "سيربنت" الذي كان في تلك اللحظة فاتحًا فكيه في توحُّش ساخر تجيده الأفاعي.. ومن نظرة شيطان إلى شيطان فهم "ماستيم" كل شيء.. 
_227_

لقد كانت الجارية الفاتنة "روكسلانا" ساحرة يهودية أخذت كجارية من جزيرة القرم وأهداها تتار القرم إلى السلطان "سليمان القانوني".. ومن نظرة أخرى إلى الأفعى "سيربنت" عرف "ماستيم" أن أخذها كجارية لم يكن صدفة بل كانت مُرسلة في مهمة محددة.. محاولة التأثير على أقوى سلطان عثماني بالسحر.. حانت من "ماستيم" نظرة إلى الخليفة السلطان "سليمان القانوني".. كان هذا هو السلطان العثماني الذي اتسعت في عهده الدولة العثمانية إلى أقصى اتساع لها.. قويًّا كان.. عظيمًّا.. يستحيل إغواؤه أو التأثير عليه.. فلم يجد اليهود خيرًا من السحر.. ولم يختاروا ساحرًا عجوزًا بل أحسنوا الاختيار كعادتهم.. "روكسلانا" أكثر الساحرات التي عرفهن التاريخ فتنة وجمالًا.. ساحرة كانت تنام بين أحضان الخليفة معظم الليالي السبع في الأسبوع. 

ضم الشيطان "ماستيم" قبضتيه الاثنتين وأسند عليهما ذقنه.. وبدأ يشاهد وعلى قناعه ملامح ساخرة.. "روكسلانا" سحرت قلب الخليفة بجمالها قبل أن تسحره بتعاويذها.. وطلبت منه الزواج.. ورغم أن هذا كان ممنوعًا أن يتزوج الخليفة جاريته إلا أن السلطان "سليمان القانوني" ولأول مرة تزوج جاريته وكسر القاعدة.. لم يكن السلطان يملك أن يرفض.. فنحن نتحدث عن سحر الهوى والغرام والمحبة وهذا من أشد أنواع السحر.. كانت "روكسلانا" تقيم في قصر الحريم أو الحرملك.. ولم تكن تحب ذلك.. فصحا الجميع ذات يوم على حريق هدم أحد جدران الحرملك وأصبحت الحريم تجري و"روكسلانا" تهرع إلى حضن السلطان وتختبىء وترجوه أن ينقلها لتعيش معه في القصر.. وبالفعل نقلها ولكن وضعها في جناح مستقل مجاور لجناحه.. فلم يعجبها هذا.. فأمرت ببناء باب بين جناحها وجناح السلطان فاندمج الجناح والجناح ليصبحا جناحًا واحدًا.. وبهذا أصبحت هي والخليفة لا يفترقان أغلب اليوم.. ولقد أحبت ذلك.. وكانت راضية.. وسعيدة. 
_228_

ثم أصبح السلطان "سليمان القانوني" يقوم بأمور عجيبة جدًّا لا يقوم بها من له تاريخ كتاريخه.. ففجأة أمر السلطان بإعدام مفتي الدولة "إبراهيم باشا" وصديق صباه.. والإعدام في الدولة العثمانية كان يتم خنقًا بخيط من حرير أحمر.. نظر "ماستيم" إلى الأفعى "سيربنت" نظرة متسائلة.. فأشار "سيربنت" إلى "روكسلانا".. كانت مكيدة دبرتها.. مكيدة شككت السلطان في صديق صباه المفتي الأعظم.. فعلت ذلك لأن هذا المفتي كان يؤيد أن يتولى الخلافة بعد "سليمان القانوني" ابنه المجاهد العظيم "مصطفى".. ولم تكن تحب ذلك.. كانت تريد الخلافة لابنها هي من السلطان.. ابنها الخامل المعتوه "سليم". 

طار الشيطان "ماستيم" ليلقي نظرة على "سليم" هذا.. فوجده في أحضان "راشيل" جارية يهودية إسبانية أهدتها "روكسلانا" إليه.. كان كثير السكر لا يخرج من مخدعه مع جاريته أبدًا إلا إذا استدعاه السلطان "سليمان".. ظهر على قناع "ماستيم" بعض السخرية.. ثم طار عائدًا إلى الساحرة.. إلى "روكسلانا". 

إن "سليمان القانوني" مُصر على أن يتولى "مصطفى" ابنه الحكم من بعده.. لكنها لم تكن تحب ذلك.. وفي ذات يوم كان "مصطفى" في بلاد فارس.. وهانحن نراه يدخل في خيمة يفترض أن يقابل فيها أبوه الخليفة.. وفور أن دخل "مصطفى" إلى الخيمة هجم عليه خمسة رجال ملثمين لا ترى من وجوههم سوى عيون عابسة.. كانوا يخنقونه بخيط من حرير.. وبينما هو يقاوم بكل ما وهبه الله من قوة وعنفوان إذ به يرى والده الخليفة "سليمان القانوني" يقف أمام المشهد ناظرا في صرامة.. إنه يشهد إعدام ولده.. فلذة كبده.. لقد التفت عليه الأفعى حتى لم تترك في روحه مكانا لأي شيء سوى السحر.. السحر الأسود.. أقنعته الفاتنة "روكسلانا" والمفتي الذي وضعته هي بنفسها بدلا من المفتي المقتول.. أقنعاه أن "مصطفى" ولده يدبر مكيدة للانقلاب عليه وأخذ الحكم منه.. وبالنسبة ل "سليمان القانوني" كان هذا يعني الخيانة.. وصرامته في تنفيذ القانون التي استقى منها اسمه لم تدع له مجالًا للتفكير في مشاعر الأبوّة.. 
_229_

وهاهو "مصطفى" ينهار بين أيدي الملثمين وتخور قواه ويسقط على الأرض جثة هامدة بلا روح.. ثم أرسلت "روكسلانا" من يقتل ابنه الرضيع في بورصة حتى ينقطع هذا النسب تمامًا. 

لم يكن الطريق خاليًا بعد للابن الخامل "سليم".. كان هناك للسلطان ابن آخر.. ابن من "روكسلانا".. ولكنه مقاتل صنديد.. المشكلة أنها لم تكن تحب ذلك.. كان اسمه "بايزيد".. كادت الساحرة لابنها مكائدها حتى جعلته يتمرد على السلطان.. وكادت الساحرة مكائدها عند السلطان حتى جعلته يأمر باللحاق به وإعدامه هو الآخر بتهمة الخيانة العظمى.. وكان هذا ثاني ابن للسلطان يأمر بإعدامه.. أي سحرٍ أسود لعين هذا.. بل إن اللعنة كلها كانت تتحدث عن نفسها لحظة الإعدام.. الأمير "بايزيد" يقف في الغابة وحوله أربعة أولاد صغار هُم أطفاله وأحفاد السلطان.. وحولهم نفر كثير من جنود السلطان يحاصرونهم في غِل.. قتلوا "بايزيد" ثم قتلوا أولاده بدم بارد.. قتلوهم وهم يعرفون تمامًا أن السلطان سيسعد بهذا وسيكافئهم على قتل ابنه الخائن.. ولأحفاده الذين لا ذنب لهم.. تحول قناع "ماستيم" من طور الابتسامة الساخرة إلى طور الضحكة الساخرة المتشفية.. وطار عائدًا إلى الساحرة "روكسلانا" مرة أخرى. 

الآن فقط صار الطريق إلى كرسي الخلافة خاليًا.. ولم يعد من أولاد السلطان حيًّا سوى "سليم" الذي استحق عن جدارة لقب التنبل.. ظلَّ "ماستيم" يطير حوالي الساحرة اليهودية "روكسلانا" حتى ماتت بين أحضان السلطان "سليمان القانوني".. ماتت بعد أن أنجزت مهمتها على أكمل وجه ممكن.. ثم مات سليمات القانوني".. وصعد ابنه التنبل "سليم" إلى العرش. . لم يتغير شيء من حال "سليم".. ظلَّ سكيرًا عربيدًا.. كان "ماستيم" سعيدًا.. ليس بسبب غباء الخليفة الجديد ولكن بسبب ذكاء زوجته.. "راشيل" تلك الجارية اليهودية الإسبانية التي كان لا يغادر مخدعها ولا زال.. لقد مشت على خطى معلمتها "روكسلانا" وأصبحت تدير زوجها.. بل تدير الدولة العثمانية كاملة.. كانت هي الحاكمة الفعلية.. 
_230_

ليس هذا فقط.. بل إن والدها اليهودي "جوزيف ناسي" كان خليل السلطان "سليم" ومستشاره في أمور الخلافة ويقضي معه أغلب الوقت في السكر والعربدة.. الدولة العثمانية العظيمة الواسعة صارت تحكمها امرأة يهودية.. كذلك كان الحال في ذلك الزمن.. وكذلك كان قناع "ماستيم" منتشيًا.. وأقنعة اليهود الذين أرسلوا "روكسلانا" و"راشيل" منتشية. 

توفي التنبل "سليم الثاني" وخلفه ابنه التنبل أيضًا "مراد الثالث".. كان يبدو أنها سلالة من التنابل قد بدأت تظهر.. ظلت "راشيل" تحكم الدولة من وراء الستار.. بل إن سلطتها قد تصاعدت أكثر لأن "مراد الثالث" هذا هو ابنها الفاشل.. وبدأت الدماء اليهودية تنخر في عظام الدولة العثمانية بإشراف الأفعى "سيربنت" والمراقبة المتشفية للشيطان "ماستيم".. وبدأ اليهود الذين نزحوا من الأندلس من قبل يرتعون ويلعبون في أرجاء الدولة العثمانية كما يحلو لهم.. ويرتقون قي المناصب الهامة كما يحلو لهم.. الأخطر أنهم بدأوا ينظرون إلى الأرض التي حُرموا منها طويلًا ولازالوا محرومين.. أرض فلسطين.. ونظر معهم الأفعى "سيربنت" بعينيه المشقوقتين.. والشيطان اليهودي "ماستيم" بقناعه الأبيض. 

لم يُطل "ماستيم" المكوث في قصر الخلافة.. بل إنه طار فجأة إلى ساحة وسط مدينة اسطنبول.. كان مشهدًا مهيبًا ذلك الذي يحدث هناك.. رجل موضوعة قدماه في قالب من الطوب ومربوطة ذراعاه ورقبته إلى القالب.. ويحيط به حوالي ألف متجمهر.. وحوله عسكر من عسكر السلطان.. رأى "ماستيم" الشيطان الأفعى "سيربنت" يلتف حول قالب الطوب مرتفعًا برأسه مقتربًا بها من الرجل المقيَّد.. كان ذلك المقيَّد يدعى "ساباتاي زيفي".. وكان اليوم يوم إعدامه.. وكان يومًا مشهودًا كما هو واضح. 
_231_

إن "ساباتاي زيفي" يهودي.. يتبعه ألف يهودي. . يسموه أتباعه المسيح المخلص.. أما هو فيخاطبهم مسميًا نفسه مسميات عديدة مثل ابن الإله البكر.. أو أبوكم يسرائيل.. بل إنه يقول أنا الرب إلهكم الأعلى.. وُلد بعد فترة اضطهاد اليهود في أوروبا.. وتربى وهو يسمع أحاديث اليهود عن قرب ظهور المسيح المخلص الذي وعدهم به الله.. والذي سيأتيهم ليخلصهم من عذابهم ويحكم بهم الأرض كافة.. درَس التلمود ودرَس الكابالا.. ولما أصبح يافعًا خرج في اليهود يقول إنه المسيح المخلص.. وأنه لا قيام لهم في الأرض إلا بعد أن يدخلوا فلسطين فاتحين. 

جمع حوله العشرات ثم المئات ثم الآلاف.. وجاء عام 1666 .. ستة وستة وستة.. رقم الوحش كما يقول الإنجيل.. أعلن بين أتباعه اليهود أن الشيء الوحيد الذي يمنعهم من دخول فلسطين هو الدولة العثمانية الغاشمة.. دولة تغلبت جينات وزرائها العربية على الجينات اليهودية التي زرعتها "روكسلانا" في دماء سلاطينها فأصبحوا من بعدها تنابل السلطان.. رجال كانوا يصلحون ما يفسده السلاطين لو أفسدوا.. ويشدون على أيديهم لو أصلحوا.. يولونهم ويعزلونهم ويدبرون شؤون البلاد.. رجال شكلوا دولة واحد قوية.. دولة لابد أن نسقطها نحن اليهود.. فإما هذا وإما لا قيام لنا في هذه الدنيا أبدًا.. خرج "ساباتاي"في عدة مظاهرات تطالب بإسقاط السلطان.. فما كان من السلطان إلا أن أمر بالقبض عليه وإعدامه في الساحة العامة.. وليشهد العالمان إزهاق روحه الخائنة.. وهاهو "ساباتاي زيفي" يركع وأطراقه مثبتة إلى قالب من الطوب.. ورجال من رجال السلطان الأشداء حوله يشمرون سواعدهم للنيل من رأسه. 

وكان يبدو أن هناك مترجمًا بجواره يحدثه بحديث ما قبل أن يعدم.. طار "ماستيم" ليستمع.. كان المترجم يقول ل "ساباتاي" : 

- لقد فقدت عقلك يا "ساباتاي".. ويبدو أن حماقتك ستودي بك إلى الجحيم. 
_232_

نظر له "ساباتاي" وقال له : 

- لا جدوى لهذا الحديث الآن يا هذا. 

قال المترجم بلهجة من يقول أمرًا خطيرًا: 

- اسمعني جيدًا.. أنا يهودي مثلك.. ومؤمن بك وبدعوتك.. وإني أود أن أسوق لك اليوم فكرة تُنجيك من الإعدام وتكسبك عند السلطان هيبة.. بل وتكون لك هبة وعطية من السلطان. 

ظهرت الدهشة على وجه "ساباتاي" وقال للمترجم : 

- أي فكرة هذه يا بني.. هل تهزأ بي؟ 

قال له المترجم بسرعة : 

- أن تعلن إسلامك الآن وفي التو واللحظة وأنك تائب إلى الله.. وإلى دين المحمديين ارتاح قلبك. 

- يبدو أنك تهزأ بي حقا.. هل أنت يهودي حقا يا هذا؟ 

- ليس هذا ما تظن أيها المسيح.. أنت ستقول هذا بلسانك وحده.. ولن يصدق على هذا قلبك.. وستنشر دعواك سرا بين أتباعك المخلصين.. وسنكيد للسلطان حتى نسقطه.. وسنعود معك إلى فلسطين لتقيم دولة الإله الموعودة هناك. 

ضيق الأفعى "سيربنت" عينيه في سعادة أفعى.. ومثله فعل "ماستيم" في ملامح خبث يهودي.. ومثلهما فعل "ساباتاي".. وحدث ما اقترحه المترجم اليهودي بالحرف الواحد.. أعلن "ساباتاي زيفي" إسلامه على الملأ.. فعفى عنه السلطان.. وأعطى له عطية خمسين قطعة فضية شهريا.. خرج "ساباتاي" حرا طليقا.. وسمى نفسه "محمد افندي".. وأمر كل أتباعه أن يتحولوا إلى الإسلام كما تحول.. ويبطنوا اليهودية كما أبطن.. وأصبح هؤلاء يعرفون في الدلوة العثمانية باسم خاص.. يهود الدونمة.. أي اليهود التائبين العائدين إلى الله.. وانتشروا في أرجاء الدولة العثمانية ووصل بعضهم فيها إلى مناصب عالية وحساسة. 
_233_

كان لكل واحد منهم اسمان.. اسم إسلامي يُظهره ويتعامل به مع الناس.. واسم يهودي يبطنه ويتعامل به مع من هم على شاكلته.. كانوا يقيمون كافة شعائرهم اليهودية خلف أبوابهم المغلقة.. ماعدا الامتناع عن العمل يوم السبت حتى لا يُلفتوا الأنظار.. وابتدعوا فكرة الكتب الصغيرة التي يمكن إخفاؤها في الثياب.. كتب الجيب.. حتى يسهل عليهم إخفاؤها دائمًا.. كانوا يهودا ذوي مذهب خاص بهم لا يشاركهم فيه بقية اليهود.. شاعت بينهم الحفلات الإباحية التي يتبادلون فيها الزوجات.. ولهم عيد يُطفئون فيه الأنوار ويقعون على بعضهم البعض كالبهائم.. فإذا وُلِد لهم مولود من جراء هذا العيد يكون في عقيدتهم مباركًا.. لم يكونوا يحرّمون الزنا.. وانتشر بينهم بشكل رهيب زنا المحارم.. ينظرون إلى فلسطين على أنها أرض الميعاد.. ويستعجلون احتلالها حتى يُعجلوا بنبوءة التوراة.. المسيح المخلص الذي سينزل إليهم ويحكم بهم العالم من القدس.. ولحدوث هذا فهم لا ينتظرون نزوله مثل بقية اليهود وإنما سيسعون لتعجيل نزوله باحتلال فلسطين.. حتى يتسنى له أن يحكم العالم منها.. كان هؤلاء هم بذرة لشيء شديد البشاعة ظهر في السنين التالية.. شيء عُرف باسم كريه.. الصهيونية. 

وبدأ قناع الشيطان اليهودي "ماستيم" يحمل ملامح مرعبة شديدة البشاعة.. وظل طائرًا في الأجواء يتابع الأحداث.. تم نفي "ساباتاي زيفي" إلى ألبانيا حيث مات هناك بالكوليرا.. ظل أتباعه يؤمنون بالفكرة رغم أن مسيحهم مات.. قالوا إنه صعد إلى السماء وأصبح ملاكًا.. وأنه سيعود لما تقوم دولتهم الموعودة في فلسطين.. كانوا ينظرون إلى فلسطين بنهم.. وظلت الدولة العثمانية تمنعهم منها.. زاد عدد الواصلين منهم إلى مناصب الدولة العثمانية الحساسة.. حتى أصبحوا قيادات في الجيش.. وهنا بدأوا يلعبون لعبة أخرى.. لعبة تدعى الاتحاد والترقي. 
_234_

بعد مرور سنوات طوال، هرع "ماستيم" طائرًا إلى قصر الخلافة العثمانية الجديد المدعو قصر يلديز.. ودخل إلى حيث العرش.. وشهد هناك مشهدًا تاريخيًّا.. الخليفة العثماني "عبد الحميد الثاني" واقفًا وجها لوجه مع زعيم ومؤسس الحركة الصهيونية "تيودور هرتزل".. كان "هرتزل يقول له: 

- سيدي إن نحن حصلنا على فلسطين سندفع للدولة العثمانية الكثير.. نعلم أن الخلافة في أزمة مالية شديدة بعد الحروب العديدة.. نحن سنسوي لكم أوضاعكم المالية بدون قروض.. فقط نحن نريد فلسطين مِلكًا لنا. 

- لماذا تريدون فلسطين بالذات؟ إن بإمكانكم الاستقرار في أي مقاطعة عثمانية تشاءون. 

- إن فلسطين يا سيدي هي المهد الأول لليهود. 

- فلسطين لا تعتبر مهدًا لليهود فقط.. بل هي مهد لكافة الأديان. 

- لكننا أول من سكنها أيها السلطان . 

- كذبت.. سبقكم الفينيقيون والكنعانيون وغيرهم كثير. 

- لكننا كنا أطول الأمم حُكمًا لها. 

- بل حكمتموها أربعمئة سنة وحكمها المسلمون ثلاثة أضعاف مدتكم.. حكمناها ألف ومئتي سنة ولازلنا نحكمها وسنزال. 

- أنتم تؤمنون بالتوراة ياسيدي.. وفيها وعد صريح لنا بالأرض المقدسة 

- توراتكم ليست التوراة التي نؤمن بها.. وحتى في توراتكم المحرفة قلتم إن الله وعدها المصلحين من عباده.. وأنتم لم تصلحوا سوى ثمانين سنة زمان الأنبياء.. وأفسدتم في بقية الأربعمئة سنة كلها. 

- لسنا في جدل تاريخي يا سيدي.. إننا اليوم أتينا نمد لكم يد العون.. نرد لكم الجميل.. فقد استقبلتمونا في أراضيكم لما طردتنا الأمم.. ونحن نملك المال.. وأنتم في أمسّ الحاجة إليه.. وكل ما نطلبه أرض بسيطة لن نعدو خارجها.. سنهاجر لها من الأرض كلها ونسكن بها.. أراضيكم لا حدود لها يا سيدي.. ولن نزاحمكم فيها.. فبدلًا من أن نعيش متفرقين بين تلك الأرض وتلك.. اجمعونا في أرض واحدة. 
_235_

- ومن أنا حتى أبيعك فلسطين.. هل تظنها مِلكًا لي؟ أبيع فيها وأشتري متى أشاء؟ إنما هي ملك للأمة الإسلامية العظيمة.. فيها معرج سيدي محمد إلى السماء فكان قاب قوسين أو أدنى.. وإليها كانت قبلتنا.. اذهب إلى الشعب المسلم فردًا فردًا وائتني به شاهدًا لك ونصيرًا.. وسأبيعك إياها. 

- سنأخذ على عاتقنا تنظيم الأوضاع المالية.. وسنقيم لكم في أوروبا سدًّا منيعًا ضد آسيا.. وسنبني حضارة ضد التخلف. 

- لقد قاتل أسلافي من أجل هذه الأرض ورووها بدمائهم الغالية.. فلتحتفظوا بملايينكم.. إذا مزقت دولتي يمكنك عندها أن تأخذ فلسطين بلا مقابل.. لكني لا أوافق على تشريح جثتي وأنا على قيد الحياة.. ولئن استمريتم في حماقتكم هذه لأطردن منها كل يهودي ولأنفينكم إلى حيث تنهش الأمم في لحومكم. 

تحول قناع "ماستيم" المرعب إلى ملامح غاضبة.. ولكن "هرتزل" أعطى السلطان ابتسامة على الطراز الصهيوني.. وسلم عليه وخرج مهزومًا.. لقد حاول إغراء السلطان بالمال.. لكنه عرف معدن "عبد الحميد الثاني" جيدًا.. ليس له إلا حل واحد نطقه بنفسه.. لن يعبر اليهود إلى فلسطين إلا على أشلائه.. وخرج "هرتزل" من القصر العثماني وطار "ماستيم" فوقه لا يفارقه. 

منذ سنوات من هذه الواقعة كان "هرتزل" يلقي خطبته المريبة في مجتمع حكماء صهيون.. وكانت خطته أن يدور الأفعى" سيربنت حول أوروبا فتسقط كل الملكيات فيها ثم تهبط أخيرًا في أرض العرب لتسقط الدولة العثمانية.. بعد مؤتمر صهيون هذا نجح الأفعى في إسقاط النظام القيصري الروسي بالثورة الروسية التي أودت بالبلاد إلى حكم شيوعي يهودي.. 
_236_

وها هي الأفعى "سيربنت" قد هبطت في أرض العرب.. وقد قال "هرتزل" في مؤتمر صهيون إن المنظمة الماسونية هي أداة يجب أن يستخدمها أبناء صهيون في خدمة خطة اليهود في كل زمان ومكان.. طار "ماستيم" وراء "هرتزل" إلى بلد تدعى سالونيكا في اليونان العثمانية آنذاك.. وهناك فهم "ماستيم" كل شيء. 

رغم أن اليهود الذين ادعو الإسلام أتباع "ساباتاي" كانوا قد انتشروا في أنحاء الدولة العثمانية كلها إلا أن أكبر تجمع لهم كان في سالونيكا اليونانية العثمانية.. وهناك نشط محفل ماسوني إيطالي وبدأ يجمع يهود الدونمة الذين وصلوا إلى مراكز قيادية في الدولة.. وخاصة العسكرية.. جمعهم كلهم وكون بهم جمعية اسمها جمعية الاتحاد والترقي.. وجعل تنظيم الجمعية يماثل التنظيم المتبع في المحافل الماسونية عادة.. وكان للجمعية هدف أساسي واحد.. إسقاط السلطان "عبد الحميد الثاني" بأي ثمن.. وشمرت الآلة الإعلامية اليهودية المعروفة عن سواعدها.. وشمر "ماستيم" عن سواعده وبدت يداه لأول مرة.. كان يملك أصابع طويلة وأظافر أطول.. وسواعد تبدو من شدة هزلها وكأنها عظمية وبدأ اليهود في عملهم الذي يجيدونه جيدًا منذ بداية الزمان.

كان يبدو وكأن الدنيا كلها انقلبت فوق رأس السلطان "عبد الحميد الثاني".. مارسوا اللعبة المعتادة.. تهيج الشعب على الملك بأخبار زائفة وأحداث مفتعلة تبدو وكأنها من صنعه وليس له فيها ناقة ولا جمل.. فجأة أصبح السلطان طاغيًا ومستبدًا ومصاص دماء.. وزرعوا في عقول الناس أن الدولة العثمانية يجب أن تتحرر من استبداد الإسلاميين المتعنتين وتتحول إلى دولة متحضرة مثلها مثل إنجلترا وفرنسا.. قالوا إن السلطان هو عدو للتحضر وأنه يلقي المثقفين من نافذة قصره.. وأنه يرفض الموافقة على العمل بدستور متحضر يماثل دستور الدول المتحضرة ويتمسك بدستور قديم عفى عليه الزمن.. وكل هذا بدعم خرافي من الصحافة ودعم أسطوري من أصحاب المال اليهود.. وانضم للاتحاد والترقي كبار رجال الجيش العثماني. . 
_237_

بل إن وزير المالية في الدولة العثمانية كان يهوديًّا.. وقد ساهم طبعًا في تطبيق الطريقة اليهودية في التعامل مع الممولين اليهود مما يتيح لهم السيطرة على السوق.. رئيس مكتب الصحافة كان يهوديًّا.. وكان يغلق كل صحيفة تكتب كلامًا لا يخدم الاتحاد والترقي.. كانت حفلة اليهود قد بدأت على الدولة العثمانية.. ولم يكونوا ليرضوا بأقل من تشريحها إلى شرائح لا سبيل إلى إعادتها مرة أخرى. 

كان السلطان "عبد الحميد" واضعًا قانونًا صارمًا يتعلق بسفر اليهود إلى فلسطين.. فقد فرض على كل يهودي أن يحمل جوازًا أحمر يمنعه تمامًا من دخول فلسطين.. ويمنعه من شراء أي أرضٍ فيها.. وهاهو التاريخ ينظر معنا ومع "ماستيم" إلى مشهد فرقة من فرق الجيش قد انطلقت من سالونيكا لتخلع السلطان عبد الحميد بالقوة الجبرية.. ووصلت القوات إلى اسطنبول.. ودخل إلى السلطان لتسليمه قرار العزل الرسمي أربعة رجال أحدهم كان يهوديًّا والثلاثة الآخرين ليس فيهم عربي أو عثماني واحد.. بل إن أحدهم أرمني والآخر ألباني والثالث جرجي.. كان "ماستيم" في هذه اللحظة يضحك.. بل كان يقهقه. 

تم نفي السلطان إلى سالونيكا. بين أحضان اليهود وتم حبسه في أحد البيوت اليهودية هناك لمدة تزيد على الثلاث سنوات.. وكان السلطان يسمع بأذنه هتافات في سالونيكا تقول "سقط المستبد فارض الجواز الأحمر الذي حرم اليهود من فلسطين".. كان لايزال "ماستيم" يضحك بسعادة شيطانية.. وحق له أن يضحك.. فهاهم الاتحاد والترقي قد عينوا للمسلمين خليفة آخر هو "محمد السادس".. كان خليفة صوريًّا فقط بينما يحكم رجال الاتحاد والترقي اليهود البلاد.. نعم كانت تلك فترة من فترات الدنيا حكم فيها اليهود خلافة إسلامية واسعة. 

أسقط الاتحاد والترقي الجواز الأحمر.. وصار من حق أي يهودي أن يهاجر إلى أي مكان في فلسطين يشاء ويشتري فيها أي أرض أحب.. وارتفعت ديون الدولة العثمانية من ثلاثين مليونًا في عهد "عبد الحميد" إلى أربعمئة مليون.. كما فعلوا من قبل في أي دولة تمكنوا منها.. وتدفق اليهود من كل مكان إلى فلسطين.. حتى وصل عدد اليهود فيها إلى 85 ألف يهودي. 
_238_

كان الاتحاد والترقي يتعمدون حكم البلاد بالنزعة القومية التركية.. ويحقّرون من شأن العرب الجهلة البدو الرُّحل باعتبار الجنس التركي هو الجنس الفاتح العظيم الراقي.. وبالتالي قد سمح هذا التوجه العنصري لتوجُّه عنصري آخر أن يظهر بشكل طبيعي.. ضاق العرب ذرعًا بحكَّامهم الأتراك الذين يظنون أنفسهم فوق البشر.. وانتعشت في قلوبهم فكرة التحرر بعروبتهم من حكم هؤلاء.. خاصة وقد بلغت مناصب اليهود في الدولة العثمانية مبلغًا لا يمكن السكوت عنه.. ودخل اليهود فلسطين بعد أن كانوا محرومين.. فكر العرب في التحرر وعمل دولة إسلامية جديدة يحكمها خليفة عربي يعيد لهم مجدهم وعروبتهم. 

كان "ماستيم" الآن في فلسطين.. وتحديدًا في القدس.. يطير فوق الأقصى ويبتسم ابتسامة شيطانية صهيونية مخيفة.. لم تكن هذه نهاية الرحلة.. كان "ماستيم" يعلم جيدًا أنها مجرد البداية.. بداية عهد أنتيخريستوس. 

تمَّت 


***



_239_

شيطان بني إسرائيل image
ياحكماء صهيون image


ياحكماء صهيون

1900 بعد الميلاد



اليوم الأول 

ياحكماء صهيون.. يا صفوة الأرض.. يا ملوك الذهب.. لقد كان حقا على الله أن يختاركم شعبا.. لقد اصطفاكم من بين شعوب العالم البهيمية الفاسدة (الغوييم) لتؤسسوا مملكته العظيمة على الأرض.. وها نحن نلتقي اليوم في هذا المحفل.. وغدًا وبعد غد.. وستكون هناك اجتماعات أخرى فيما سيأتي من السنين.. نحن هنا اليوم لنتحدث في أمر خطتنا الاستراتيجية العظيمة الكاملة التي بدأها أسلافنا.. وسلمها أسلافنا لأسلافنا.. ثم سلمها أسلافنا إلينا.. وكان حقًّا علينا أن نسلمها نحن لمن سيأتي بعدنا.. ولو انحرفنا عنها حطمنا عمل قرون طويلة.. فالحذر كل الحذر يا بني إسرائيل. 

أنتم تعلمون جيدًا أصول الخطة القديمة.. تعلمون كل الأعمال الجليلة التي قدمها لشعبنا الملاك الساقط "بافوميت".. والخدمات العظيمة التي أداها في خريطة العالم التاريخية الملاك الساقط الجليل "سيربنت".. لا داعي للخوض في تفاصيل تاريخية نحفظها جميعًا عن ظهر قلب.. يا حكماء صهيون.. لقد حان دورنا في هذه الحكاية العظيمة.. لقد آن الأوان الذي ننفض فيه عن أكتافنا كل ما علق بها ونتحرك.. ونحرك العالم كله إلى الناحية التي نريد. 

إن أعظم طريقة يمكنك أن تحطم بها مبادىء أي جيل.. سواء الدينية أو الاجتماعية.. ليس بنقض هذه المبادىء أو تغييرها.. ولكن بتحريفها عن مواضعها ووضع تفسيرات لها لم يقصدها واضعوها.. ولذلك حالفنا الحظ ببركة الأفعى "سيربنت" بتغيير مباديء المسيحية لتصير شيئًا آخر تمامًا غير ما أُريدَ لها أن تكون.. وكذلك الإسلام الشيعي المشوه الذي تمكنا من السير به إلى طريق آخر تمامًا يعارض إسلام محمد.. بل ويحاربه.. بل ويستعين على حربه بأعدائه.. وهذه هي العبقرية اليهودية بعينها. 

قد نعرض في هذه الخطة بعض الأمور الغير أخلاقية والتي نحن مأمورون بالقيام بها.. لكن تذكروا دائمًا.. إن هذه الأمور كلها تصير أخلاقية تمامًا بالنسبة لشعب مثل شعبنا.. شعب مضطهد مُهاجَم داخليًا وخارجيًا.. واعلموا أنه في هذا الزمن الذي أتى على بني الإنسان .. الشر هو الوسيلة الوحيدة للوصول إلى الخير. 
_207_

إن قوتنا أعظم من أي قوة أخرى.. لأنها ستظل مستورة حتى اللحظة التي تبلغ فيها مبلغًا لا تستطيع معه أن تسعها أي قوة عظمى ولا أي خطة ماكرة.. حقًّا القوة الخفية هي أكبر قوة.. فمن ذا الذي يقدر أن يخلع قوة خفية عن عرشها.. نعم يا بني صهيون.. فبرغم أننا شعب مشتت.. إلا أن تشتتنا هذا هو سر قوتنا.. لأنه سمح لنا أن نتسلل إلى كيانات كل شعوب العالم وونصعد فيها إلى أشد مراكزها حساسية.. وبهذا صار أمر أقوى شعوب العالم بين إصبعين من أصابعنا نوجههم أينما نشاء.. ولقد حانت لحظة التوجيه يابني إسرائيل وانتهت مرحلة التسلل. 

لقد تمكّنا من إشعال نار الثورة الفرنسية.. نحن من نادى أول مرة وقال "حرية.. إخاء.. مساواة".. كلمات كلما رددها الناس كلما فشلوا أكثر وتقيدت حرياتهم أكثر.. إن هناك كلمة نتنة تقال دائمًا.. ديمقراطية.. لا شيء يدعى ديمقراطية أو تحرُّرًا وما إلى ذلك.. كل هذا وهم.. نحن الوحيدين الذين نعرف أنه وهم.. ونحن الوحيدين الذين نعرف متى نسخر هذا الوهم ليكون طُعمًا لجذب الناس إلى صفنا.. سنشرح لاحقًا حقيقة هذا الوهم شرحًا وافيًا.. لكن مبدئيًّا.. اعلموا أن كل الناس غوغاء مفترسون عميان يحتاجون إلى القوة لتكبح جماحهم.. وهذه القوة تأتي في الديكتاتورية الاستبدادية وحدها.. أو الديمقراطية متنكرة في هيئة شيء يدعى القانون.. والكل يخضع له. 

الديمقراطية تعني الفوضى.. كيف يمكن أن تثق في أحكام الغوغاء الذين يجعجعون بمناقشات ومجادلات.. مع أنه يمكن مناقضة مثل هذه المناقشات بمجادلات ومناقشات أخرى خبيثة لكنها مقنّعة بقناع عالٍ من الإغراء.. والجدال مفيد لأنه يحول الأمور من سعي لمعرفة الحق إلى سعي للجدال نفسه.. إن الجمهور الغر الغبي ينغمس دائمًا في هذه المناقشات بطريقة تعوق كل إمكان للاتفاق ولو على المناقشات الصحيحة.. 
_208_

فإن اتفقوا على رأي أغلبية يكون رأيًا مشبعًا بالجهل بالأسرار السياسية.. وهذا ما يبذر بذور الفوضى في الحكومة عندما تقول إنها ديمقراطية.. ولهذا فقد قدمناها إلى حكومات الغوييم البهائم على أنها أرقى أنواع الفكر الإنساني. 

ولو تفكر أصحاب الديمقراطية والجمهورية قليلًا لوجدوا أن الشعوب الآن تتحمل من وزرائها ورؤسائها إساءات لو حدثت في الماضي كانوا سيقتلون من أجلها عشرين ملكًا.. لكنهم لا يقرأون التاريخ ولا يحبونه. 

الاستبداد وحده هو الذي يقيم الحضارة.. فهل يمكن لخطة مجزأة عدد أجزائها بعدد العقول التي صنعتها أن تقيم حضارة؟ محال طبعًا.. فالغالب أنها تكون حضارة هشة ضائعة القيمة.. فالجمهور بطبعه بربري.. وفور أن تعطيهم شيئًا من الحرية فهم يمسخونها إلى فوضى.. القوي يحكم دائمًا والضعيف يخضع دائمًا.. لهذا ينجح الأب في تربية ابنه الصغير.. ويفشل في تربية ابنه الكبير.. ولذلك في حكومتنا يجب أن نكون صارمين جدًّا في كبح كل تمرد.. أما الكلمات الجوفاء والتربيت على الرؤوس وهذه الترهات كلها يجب أن تكون من خصال حكومات الغوييم. 

الحقيقة التي يفرضها علينا هذا الزمان هي الاستبداد.. قل لي ما نوع الحكومة التي يمكنها أن تحكم مجتمعًا تفشَّت فيه الرشوة والفساد حتى ذبلت أوراقه وتساقطت.. قد تقول لي إن حكومة الاستبداد هذه قد ولَّى زمانها ولم تعد تصلح للعصر الحديث.. لكنني سأبرهن لك أن العكس هو الصحيح.. لما كان الناس ينظرون إلى ملوكهم نظرة من معهم إرادة من إرادة الله.. كانوا يخضعون في هدوء لاستبداد ملوكهم.. لكن لما أوحينا لهم بفكرة الحقوق والمساواة وما إلى ذلك بدأوا في النظر إلى الملوك نظرتهم إلى أبناء الفناء العاديين وسقطت عنهم المسحة المقدسة.. وبهذا لن يقبلوا منهم استبدادًا ولا حتى نصف استبداد. 
_209_

إن السياسية لا تتفق مع الأخلاق في شيء.. والحاكم الملتزم بالأخلاق ليس بسياسيٍّ بارعٍ.. وهو لذلك غير راسخ على عرشه.. لابد لطالب الحكم من الالتجاء للرياء والنفاق والمكر.. الإخلاص والنبل والأمانة تصير رذائل في السياسة.. وهي تساهم في زعزعة العرش بأكثر مما يساهم ألد الخصام. 

وإني أود أن أحدثكم في أمرٍ هام.. كيف يمكن أن تستعبد دولة كبيرة مثل روسيا.. في البداية قم بتوسيع الفجوة مابين الحكومة الغبية والشعب الغوغاء العميان.. وزد من كراهية كل طرف للطرف الآخر.. فكلما زدت من كراهية الشعب في نفوس حكومته الغبية .. ستقوم بإساءة استغلال قوتها الغاشمة وتكسر قوانين الديمقراطية العفنة.. وكلما زدت من كراهية الحكومة في نفوس شعبها سيبدأ في التمرد على القوانين العفنة التي وضعتها حكومته ثم كسرتها. وإن أي دولة تنتكس فيها هيبة القانون وتصير شخصية الحاكم فيها عقيمة بتراء.. هنا يمكننك أن تتخذ خطًّا هجوميًّا وتقوم بثورة أو انقلاب تحطم فيه كل القواعد والنظم القائمة.. وتمسك بالقوانين فتلقيها في أقرب قمامة وتعيد تنظيم الهيئات جميعًا.. وبذلك تصير ديكتاتورًا على حكومة تخلصت بمحض إرادتها عن قوتها وأنعمت بها عليك. 

وعندما تقع الدولة بعد ذلك في قبضتنا.. ولأننا نحن اليهود مالكوا الذهب الوحيدون في العالم.. سنقدم لهذه الدولة عودًا تتعلق به.. وهذا العود هو المال.. فإن تعلقت به أصبحت عبدة لنا.. وإن لم تتعلق به غرقت إلى الأبد.. إن الذهب هو المحرك الأول لعجلة أي دولة.. وطالما نمتلكه ونحتكره فيمكننا شل حركة أي دولة في أي وقت نريد. 

نحن اليهود وحدنا من نملك الاقتصاد.. علم الاقتصاد هو مملكتنا.. إننا محاطون بجيش كامل من الاقتصاديين.. وأغلبهم حاضرين معنا اليوم.. أنتم أقوى سلاح من أسلحتنا سواء كنتم رؤساء بنوك أو أصحاب صناعات أو أصحاب ملايين. 
_210_

نحن إذا صارت دولة من الدول في قبضتنا فسنعهد بالمناصب الحكومية الرئاسية أو الوزارية فيها إلى القوم الذين ساءت صحائفهم ولديهم في تاريخهم نقاط سوداء يخفونها دائمًا.. فإذا عصوا أمرنا توقعوا المحاكمة أو السجن.. وبهذا فسيدافعون عن مصالحنا حتى النفَس الأخير الذي تنفث به صدورهم.. وأحيانًا لابد أن تظهر الحكومة بمظهر المعارضة لنا.. لكنها في حقيقة أفعالها موالية لنا ولمصلحتنا قلبًا وقالبًا. 

ولكننا نخشى أكثر ما نخشى في هذه الدول أن تتحالف قوة الحكام مع قوة الرعاع العميان.. لكننا أخذنا كل احتياطاتنا لضمان عدم وقوع هذا.. فقد أقمنا بينهما سدًّا قوامه الرعب الذي تحسه كل واحدة منهما من الأخرى.. وحتى نضمن بقاء هذا السد لابد أن نكون متصلين بكل الطوائف.. ليس بصورة مباشرة طبعًا ولكن عبر أكثر عملائنا إخلاصًا.. وهؤلاء هم من يخاطبون الرعاع ويوجهونهم أينما نراه نحن مناسبًا. 

ولتسهيل تنفيذ كل هذه المخططات لابد أن يكون لنا وكلاء دوليين لديهم ملايين العيون ووسائل غير محدودة على الإطلاق.. وهؤلاء يوجهون الحكومات.. أما الشعب فلا يوجد أسهل من توجيهه.. وتوجيهه يكون بكلمة واحدة سأفصل في أمرها لاحقا.. الصحافة.. وهي السلاح الذي لا يدري الغوييم كيف يستخدمونه.. ونحن سنلعب به دائما من وراء الستار.. وهو الشيء الذي يوجه الناس للاتجاه الذي نريده تماما. 

من اللازم أن نضع في كل المجتمعات هيئات نصبغها بصبغة تحررية لها خطباء مفوهون يسحرون العامة بالكلام البليغ.. وهو مجرد كلام بدون أفعال حقيقية.. لكنه يسحرهم ويصدقونه في يأسٍ أملًا في تغيير الحال.. في نفس الوقت سنزيد المرتبات ونزيد الأسعار في ذات الوقت.. فنرهق أصحاب الأعمال برفع المرتبات.. ونرهق العمال برفع الأسعار فلا يستفيد أحدٌ شيئًا إلا مزيدًا من الإرهاق. 
_211_

بالنسبة للحكومات فسنختار لها رؤساء إداريين ووزراء ممن لهم ميول العبيد.. ليخضعوا لسلطة مستشارينا الحكماء الذين تدربوا على السياسة منذ كانوا أطفالًا. 

سنبدأ بروسيا ثم سندور مع دوران الأفعى "سيربنت" في أوروبا حتى تصير أوروبا مغلولة بأغلال لا تنكسر.. ثم ستكون مرحلة في غاية الحساسية والخطورة.. الإمبراطورية العثمانية الكبيرة.. سينزل إليها "سيربنت" وسننزل معه.. ولن نهدأ حتى نهلكها هلاكًا لا قيام بعده.. ثم سيختتم "سيربنت" دورته ليهبط في أورشليم.. وسنهبط معه.. وهناك ستكون دولتنا.. هناك سينتهي شتاتنا في الأرض. 

لما نستقر في دولتنا.. سنكون قوة دولية عظيمة إذا هاجمتها إحدى الحكومات قامت الأخرى بنصرتها.. عندها سيمكننا أن نبدأ في إعداد العالم كله لاستقبال الملك "هاماشياح" الذي نعده لحكم العالم أجمع. 

اليوم الثاني 

يا عظماء صهيون وصفوة صفوتها.. لقد وصلت قوتنا اليوم إلى حدِّ أن أي معاهدة تتم في العالم الحالي لابد أن تكون لنا يدٌ خفية فيها.. ولقد وصلت قوتنا إلى حد أننا نحن الآن من نقرر العقوبات.. نعدم من نشاء ونعفو عمن نشاء.. ولم نصل لهذا إلا لأن الله أعطانا عبقرية لم يعطها لأي شعب من شعوب الأرض. 

اليوم هو اليوم الثاني وغدًا سيكون اليوم الأخير لهذا الاجتماع التاريخي.. ويجب أن يعرف الجميع أنه وبدون أن أنوّه.. لابد أن يظل كل ما يدور في هذا الاجتماع طي الكتمان التام. رغم أن الغوييم بطبيعتهم ذوو عقول بهيمية محضة لا يمكنهم ملاحظة أي شيء فضلًا عن التكهن أو تحليل أي شيء.. على النقيض منا بالضبع.. فهذا الاختلاف في العقلية بيننا وبينهم يرينا لماذا اختارنا الله وأعطانا طبيعة ممتازة فوق البشرية.. 
_212_

ولو ظهرت هذه العبقرية لغير اليهود فهي عارضة مصادفة لا أصلية.. ويجب علينا حربها لأنها خطرٌ كبيرٌ علينا.. بغض النظر عن هذا سأبدأ الحديث اليوم بشرح النظام الجمهوري والذي سنبدله مكان النظام الملكي في كل الدول التي سيمر عليها الأفعى "سيربنت". 

الملك في النظام الملكي سيُستبدل بشيءٍ هزلي يدعى الرئيس.. وسنختار لهذا المنصب رجلًا لديه فضيحة من الفضائح السرية.. ونحن نعرفها جيدًا.. أخلاقية كانت أو جنسية أو رشوة.. بحيث يكون طوال فترة حُكمه أسيرًا للخوف من التشهير به.. وسنضع تحت يده شيئًا هزليًا ما يدعى مجلس الشعب.. وهو مجموعة من الناس ينتخبهم الشعب للتعبير عنه.. وهذا المجلس هو الذي سينتخب الرئيس ويحميه.. ولكننا سنسحب من هذا المجلس سلطة تعديل القوانين.. فيكون للرئيس السلطة الكاملة.. فالرئيس في نظامنا هذا هو رئيس الجيش أيضا.. فمن حقه إعلان الأحكام العرفية لحماية الدستور الجمهوري الجديد كما سيدعي.. ولن يكون من حق مجلس الشعب هذا أن يعرف أو حتى يسأل عن القصد من مخططات الدولة.. وسلطة تعيين رئيس مجلس الشعب الهزلي هذا تكون في يد رئيس الدولة فقط.. باختصار هو مجرد مجلس من ورق لا فائدة حقيقية منه. 

وللرئيس حق حل المجلس في أي وقت وعمل مجلس جديد.. ومن حق الرئيس أن يخالف أي قوانين موجودة ويضع قوانين وقتية في أي وقت.. وحجته في ذلك ستكون مصلحة البلاد.. وبهذا تكون الحكومات ديكتاتورية في الحقيقة ديمقراطية في الظاهر.. وممثلوا هذه الحكومات ما هم إلا أستار أو آلات لتنفيذ ما تريده الإدارة المتمثلة في الرئيس وأعوانه من الوزراء.. وهؤلاء ماهم إلا ستار لتمرير ما نود منهم أن يمرروه. 

ولأننا سنقيم الاضطرابات الدائمة بين الشعوب والحكام وسنضيق الخناق الاقتصادي على جميع الدول.. ستنوء الشعوب بحكّامها يومًا ما وينادون بعزل أولئك الحكام جميعًا وتعيين حاكم عالمي واحد يستطيع أن يوحِّدهم ويمحق كل أسباب الخلاف. 
_213_

نحن الوحيدين في هذا العالم الذين نملك أسرار الماسونية ونَقودها.. فأنّى للغوييم أن يفهموا مقاصد وأهداف الماسونية وهم غوييم خنازير لا عقل لهم.. وعلينا أن نضاعف خلايا الماسونية ومحافلها في جميع بلدان العالم.. وسنجذب إليها كل من يُعرف عنه أنه ذو روح عامة شهيرة.. وكل هذه الخلايا ستكون تحت قيادة واحدة مؤلفة من حكمائنا.. ولابد أن نضم إلى هذه الخلايا كل الوكلاء في البوليس السري في أي دولة لأنهم قادرون على إسدال الستار على مشروعاتنا وأن يعاقبوا من يكثر ضجيجهم ويسببون لنا الصداع.. وسنجد أن معظم الداخلين لهذه الخلايا من المغامرين الراغبين في الثراء السريع ونحن نمتلكه وحدنا.. وسنستغل هؤلاء لدفع عجلة هذه الخلايا إلى أي اتجاه نشاء. 

وبالنسبة للصحافة.. فيجب أن نردع كل الصحف التي تحاول المساس بنا ردعًا حازمًا بسُلطتنا.. ولكن يجب أن ننشر هجومًا على أنفسنا من آنٍ لآخر نحن الذين نكتبه.. ويكون في الواقع هجوم على النقاط التي نود تغييرها في سياستنا.. هكذا تكون العبقرية الحقة.. وكل المعارضات التي سندبرها لأنفسنا ستكون معارضات سطحية لا تقترب من الأمور الهامة. 

ولابد أن نتحكم نحن وحدنا بالأخبار دون غيرنا.. فمعروف أن الأخبار تصل للصحف عن طريق وكالات معدودة تتركز فيها الأخبار وتوزعها على الصحف.. وحينما نصل إلى السلطة سنمتلك كل هذه الوكالات ولن ننشر إلا ما نحتاج إلى التصريح به من أخبار. 

ولابد أن نشتري أكبر عدد من الصحف بأنواعها الثلاثة.. الصحف الحكومية يجب أن ترعى مصالحنا كلية.. والصحف الشِّبه رسمية الهدف منها هو استمالة قلوب المحايدين.. أما الصحف المعارضة هي النوع الثالث وهي ستظهر وكأنها مخاصمة لنا.. وسنجذب بها كل معارضينا ليفرغوا فيها أفكارهم.. وبالتالي نتركهم يكشفون لنا أوراقهم بأنفسهم. 
_214_

أما ناشروا الصحف أنفسهم فيجب أن نختارهم ليكونوا من أصحاب الفضائح السرية المخزية التي نعرفها وستسمح لنا بكشفهم في حال أردنا ذلك متى أردنا ذلك عند ظهور أي بادرة من بوادر العصيان لديهم. فصحفنا يجب أن تدعم وتمثل كل الطوائف بلا استثناء.. وبهذا تكون مثل الإله الهندي "فيشنو" ذي مئات الأيادي.. وكل يد منهم ستجس لنا نبض طائفة من طوائف الرأي العام المتقلب. 

بالنسبة للنشر فيجب أن تكون هناك هيئة في كل دولة تسمح أو ترفض نشر المنشورات.. سواء كانت كتب أو أفلام أو دوريات.. وهذه الهيئة يجب أن تكون بين أيدينا نحن.. لنقدر على التحكم بكل ما ينشر في كل مكان.. فالأدب والثقافة أعظم سلاح لنهضة أي أمة وطالما هما في أيدينا فسنكون مطمئنين. 

حتى نبعد الناس عن مناقشة الأمور المهمة سنختلق لهم دائمًا مشاكل جديدة تبعدهم عن هذا.. مشاكل اقتصادية أو سياسية في بلدانهم.. وحتى نلهي عقولهم عن الخوض في المسائل التي لا يجب عليهم الخوض فيها سندعوهم لمختلف مزجيات الفراغ مثل المسابقات الرياضية والفنية على اختلاف أنواعها.. فالجماهير الغوغائية مثل الطفل.. عندما يلح في طلب شيء ما تقول له "انظر هذا العصفور" فينظر له ناسيًا ما كان يلح على طلبه. 

لن يرتاب أحد في أننا نحن الذين ندبر كل مشكلات الدنيا عبر خطة سياسية لم يفهمها بشر طوال قرون كثيرة.. ولو قيل لأحدهم أننا ندبر كل هذا فسيقول مستهزئًا إن هذا مستحيل.. لأنه لا يمكن لأحد أن يدبر كل هذا ويخطط لكل هذا.. غير عالم أننا في سبيل أن نصل لما وصلنا إليه كافحنا وضحينا بكل شيء حتى ملكنا الذهب والمال وصرنا أغنى أهل الأرض.. ومن يملك المال يملك كل شيء. 
_215_

لقد تفضل علينا الملاك الساقط "سيربنت" بتدمير كل العقائد البشرية وتحريفها عن مواضعها.. فابتدع الناس التلمود بعد التوراة وجعلوا عيسى ابنًا لله وإلهًا معه بعد أن كان رسولًا.. ورغم أننا لم نقدر على تدمير الإسلام تمامًا كما فعلنا مع اليهودية والمسيحية إلا أننا أخرجنا من عباءته الشيعة فأذاقوه ويلات كانت تتفق في شدتها مع ضربات أشد أعداء المسلمين. 

فما وصلنا لما وصلنا إليه إلا لأننا نشرنا جوًّاسيسنا في كل بلدة وجعلناهم يذوبون مع المجتمعات ذوبانًا لا يمكن تمييزهم به.. وهؤلاء يعطوننا تقاريرَ مفصَّلة عن حالة تلك البلدان الاجتماعية والسياسية والدينية ونبض الشارع الحقيقي. 

في ختام هذا اليوم أود أن أقول إن الغوييم الحمقى لن يعرفوا أبدًا الطريقة المثلى للتعامل مع أي ثورة.. إن الثورة ما هي إلا نباح كلب على فيل.. مجرد نباح.. وليس على الفيل إلا أن يظهر قوته مرة واحدة لتشرع الكلاب في البصبصة أذنابها لما ترى الفيل. 

اليوم الثالث والأخير.. 

لن أطيل الحديث في هذا اليوم.. سيكون مجرد تنويه بسيط.. وآمل أن يكون الكل قد راجع وكتب وفهم وحفظ.. إن حكام الغوييم بسبب جهلهم.. وكلهم جهلة بالمناسبة قد أجبروا حكومتهم على الاستدانة من بنوكنا أموالا طائلة لو عاشوا قرونًا على قرون لن يستطيعوا أداءها.. نحن عملنا طويلًا لنصل إلى هذا.. لقد عملنا طويلًا ياسادة حتى نجحنا في استعباد الجميع.. حتى نجحنا أن ندخل الدول جميعها في هذه الدوامة التي لا فكاك منها.. ويجب أن نحافظ على ما فعلناه.. ومافعلناه إلا بتوجيه من حضرة جنابه الكريم.. مليكنا الذي سيحكم العالم كله من عرش داوود.. ومن نسل داوود. 
_216_

نعم نمتلك الذهب.. ونعم يمكننا في أي وقت أن نسحب منه أي مقدارٍ نشاء من حجرات كنزنا السرية.. ذلك الذهب الذي ظللنا نكدسه قرونًا طويلة.. وفي النهاية ياسادة ستوزع عليكم الآن الوثيقة للتوقيع عليها جميعكم.. لقد اجتزنا دربًا طويلًا.. وإن أمامنا درب أطول وأشد بأسًا.. وعلينا أن نكون متيقظين. وقَّع على الوثيقة ممثلوا صهيون الماسونيين من الدرجة الثالثة والثلاثين. 

تمَّت 


***



_217_

دراكولا image


اقرأ يا "دراكولا" ..

1450 بعد الميلاد



- اقرأ يا "دراكولا" يا عزيزي هيَّا ورائي..(أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. وهو ألد الخصام ). 

ردد "دراكولا" وراءه في ملل ونطق أعجمي.. نظرت إلى وجهه.. لا أدري لماذا لا أرتاح لهذا الفتى.. 

- انتبه معي هنا.. فيم يسرح عقلك الصغير.. هيَّا ردد (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها) 

من السيء أن يكون "دراكولا" أخاك.. من السيء أن ينام "دراكولا" بجانبك.. من السيء أن.. 

- (ويهلك الحرث والنسل.. والله لا يحب الفساد ) 

ظلَّ "دراكولا" يردد الآيات والشيخ يقرأها.. واضح أن "دراكولا" يكره الشيخ.. هذا ليس غريبًا.. فأخي يكره الجميع.. يكرهني ويكره هذا المكان ويكره القرآن.. بالإضافة إلى أن هذا المشهد جعلك ترفع حاجبيك في دهشة ثم تخفضهما في سخرية؛ ظانًا أنني أحكي قصة كوميدية.. لا ياصديقي.. ها أنا ذا.. "رادو" بشحمي ولحمي أجلس في هذا المسجد وهاهو أخي "دراكولا" بشحمه ولحمه يجلس بجانبي يردد آيات القرآن والشيخ يصرخ فيه وقد بدأ كل هذا الغباء يضايقه. 

دعني أحكي لك الحكاية منذ البداية حتى يزول عنك العجب.. إن أبي كان حاكمًا على مملكة والاكيا.. وقد أطلق عليه شعب والاكيا اسم "دراكول" وتعني بالرومانية التنين.. هذا لأن والدي كان عضوًا مؤسِّسا في تنظيم سري مريب من الفرسان يدعى تنظيم التنين.. وقد وضع أبي رمز التنين هذا على العملة في والاكيا وعلى الدروع الحربية أيضًا.. فشاع بين الناس تسميته التنين.. "دراكول" أو دراجول كما ينطقها الأهالي في والاكيا. 
_131_

- سيد "دراكول" إنها رسالة من السلطان العثماني يا سيدي. 

- هاقد بدأت المشاكل.. وكل ذنبنا أن والاكيا بين مطرقة العثمانيين وسندان الهنغاريين.. يريدون الفتك ببعضهم البعض.. وفي سبيل هذا فلتذهب والاكيا إلى الجحيم. 

قرأ "دراكول" رسالة السلطان باهتمامٍ شديدٍ.. إن الدولة الإسلامية تفرض عليه الجزية لتحميه من الهنغاريين وتشترط عليه أن يمدهم بالمقاتلين لو احتاج الجيش المسلم إلى المقاتلين.. وتطلب منه سرعة الرد والبرهان على الولاء.. وقد كان البرهان الذي اختاره والدي غريبًا جدًا.. لقد أرسلني أنا وأدعى "رادو" وأخي الأكبر "دراكولا" إلى أدريانوبل أو إدرنة.. معقل السلطان العثماني المسلم. 

- تعلم من أخيك "رادو".. لقد حفظ عشر سور حتى الآن.. ولم تحفظ أنت آية واحدة يا "دراكولا". 

كان أقوى برهان على الولاء.. فيستحيل أن تهاجم دولة وقد أرسلت فلذات كبدك إلى سلطانها.. وجدنا أنفسنا أنا و"دراكولا" وعمرنا لم يتجاوز الثانية عشرة غرباء في بلاد غريبة.. ومبان غريبة.. وألبسة غريبة.. وعمائم طويلة.. ولحى.. وقصور. 

كان أخي كارهًا لكل هذا السخف.. ورغم أن السلطان المسلم كان يهتم بنا جدًّا ويعلمنا الفروسية والقتال والعلوم بكافة أنواعها وخاصة الإسلامية منها إلا أن "دراكولا" لم يكن سعيدًا.. كان يشعر أنه مجرد أسير.. وأن هؤلاء أعداؤه يحاولون أن يسقونه بتعاليمهم وثقافتهم التي يكرهها ولا يستسيغها.. لكن بالنسبة لي كان الوضع مختلفًا. 

- ما اسمك أيها الفتى الظريف ذو الشعر الذهبي ؟ 

- اسمي "رادو" وأنت؟ 

- أنا "محمد بن مراد" ابن السلطان. 

لم أكن أعرف أنني سأعيش طفولتي مع "محمد بن مراد".. الرجل الذي عرفه الناس بعد ذلك بسنوات بمحمد الفاتح.. الفارس العظيم الذي فتح القسطنطينية.. 
_132_

كنت أنا و"محمد الفاتح" صديقين عزيزين.. وكلما اشتدت صداقتي معه قوة.. اشتدت عداوتنا أنا وهو مع "دراكولا".. إن "دراكولا" و"محمد الفاتح" لم يكونا يطيقان بعضهما منذ الصغر رغم أنه قد فُرِضَ عليهما أن يعيشا طفولتهما معًا.. وأن يتدرّبا معًا ويتعلّما معًا.. لم يكن هذا غريبًا أبدًا.. فأحدهما كان فارسًا حقيقيًّا وكان الآخر شيطانًا حقيقيًّا. 

- هيَّا ارمِ سهمك يا "رادو".. ارمِ سهمك . 

رميت سهمي فأصاب منتصف اللوحة الدائرية.. يالبراعتي منذ صغري.. ضربت كفي في كف "محمد الفاتح" ووقفت بجانبه سعيدًا أنني اقتربت من مهارته الفطرية. 

- دورك يا "دراكولا".. هيَّا ارمِ سهمك. 

صوَّب "دراكولا" سهمه ناحية اللوحة الدائرية.. ثم حوَّل قوسه فجأة ناحيتي أنا و"محمد الفاتح".. ونظر لنا بغِل.. واتسعت عيناي في رعب. 

- ماذا تفعل يا "دراكولا".. هل جننت؟ 

شد "دراكولا" سهمه وقوسه مصوَّب إلينا ثم أطلقه فجأة.. لم يطلقه ناحيتي.. بل حوَّله في الثانية الأخيرة إلى اللوحة.. وأصاب سهمه منتصف الهدف بالضبط.. شعرت أنه كان يتمنى لو أن هذه اللوحة هي قلب "محمد الفاتح".. أو ربما قلبي أنا. 

ست سنوات مضت ونحن على هذه الحال.. كبرنا وأصبحنا شبابًا يافعين.. وها نحن نتسابق ثلاثتنا على جيادنا العربية الأصيلة بكل قوة.. هل ترى كيف أصبحت أشكالنا الآن؟ لقد كان شكلي مميزًا جدًا.. كنت أمتلك شعرًا ذهبيًّا فاتحًا جدًّا.. حريريًّا طويلًا ينحدر إلى أسفل كتفيَّ لا تمتلكه أجمل فتيات إدرنه.. ووجها وسيمًا وصوتًا رجوليًا مميَزًا.. بينما كان "دراكولا" أسود الشعر أجعده.. ينحدر شعره إلى أسفل منكبيه أيضًا.. لكن كان له شارب كبير يقف عليه الصقر كما يقولون وعينان حادتان كأنهما عينا الصقر الذي كان سيقف على شاربه.. "محمد الفاتح" كان ذا لحية صغيرة مدببة وشعر بني وأنف طويل وعينين تشعان ذكاء وفروسية. 
_133_

ثم أتى الخبر الذي حرك كل هذه المشاهد البطيئة.. لقد توفى أبي "دراكول" فجأة في والاكيا.. مؤامرة دبرها له البويار.. وهي كلمة تطلق على طبقة النبلاء في بلادنا والاكيا.. نزل علينا هذا الخبر ونحن في أشد فترات الدولة العثمانية انشغالًا.. كنا على استعداد وتخطيط لفتح أكثر المدن حصانة في ذلك الوقت.. القسطنطينية.. وأنا أتحدث بكلمة (نحن) لأنني أصبحت مسلمًا.. بل فارسًا مسلمًا.. لكن "دراكولا" بقى على دينه.. أرسل السلطان محمد الفاتح "دراكولا" إلى والاكيا ليصير حاكمًا لها خلفًا لأبيه.. ويكون كما كان أبوه تابعًا للسلطان العثماني ومؤتمرًا بأمره.. أما أنا فقد آثرت البقاء هنا.. آثرت أن يكون لي شرف المشاركة في الفتح الكبير لقسطنطينية. 

كانت وليمة عظيمة في والاكيا.. وليمة كان المضيف فيها هو الكونت "دراكولا".. والضيوف فيها هم أكابر البويار.. الذين أكلوا حتى ثملوا وخرج الطعام من أنوفهم – تعبير شعبي في والاكيا – سألهم دراكولا بهدوء : 

- قولوا لي أيها النبلاء العظام.. كم حاكما حكم والاكيا عبر تاريخها؟ 

قال بعضهم عشرة حكام.. وقال بعضهم اثنا عشر حاكمًا.. بل ثلاثة عشر حاكمًا ربما.. قال دراكولا بثورة شيطانية فجأة : 

- هذا لأنكم خونة.. تأكلون لحم الحاكم قبل أن يتم سنتين من حكمه.. كم سنة قررتم أن تمنحوني أيها البويار ؟ 

في اللقطة التالية كان حُرَّاس القصر يهجمون على البويار من كل صوب.. يضربون بعضهم ويقتلون آخرين بقسوة.. ولم يكن "دراكولا" يشاهد من بعيد إنما أخرج سيفه وضرب أعناقًا صار نصله بعد ضربها يقطر حمرة.. بقي الكثير منهم أحياء.. نظر لهم "دراكولا" بعيون متسعة غاضبة وقال : 
_134_

- خذوهم إلى القلعة.. ليعملوا كتفًا إلى كتف مع الفلاحين في تشييدها. 

ثم قال بلهجة ذات مغزى: 

- وليعملوا فيها من الجهة الشمالية. 

الجهة الشمالية للقلعة هي الهاوية.. هاوية على ارتفاع ألف قدم.. كل من أرسله "دراكولا" هناك من البويار ماتوا.. بعضهم مات من الجوع.. أو من الإنهاك.. وبالطبع رماهم كلهم في الهاوية.. ثم إنه شنَّ حملة قاسية جدًّا لاحق فيها كل البويار الساكنين في مملكة والاكيا.. نساؤهم وأطفالهم وشيوخهم.. كانت إبادة عرقية.. تعدت العروق إلى أصغر شعيرة بويار دموية تنبض في جسد أحدهم.. وبدأت أنياب "دراكولا" في الظهور. 

على الجانب الآخر كنت أنا أقاتل في القسطنطينية.. كان "محمد الفاتح" حقًّا كما تصفه كتب التاريخ.. داهية حقيقية.. إن دهاء الفرسان يختلف عن أي دهاء آخر.. دهاء لا خبث فيه.. دهاء صاف.. كانت ملحمة تاريخية ليس بوسعي ذِكر تفاصيلها الآن.. لكننا حققنا هدفنا في النهاية.. وصارت القسطنطينية لنا.. بل صارت عاصمة المملكة الإسلامية العظيمة. 

"لتفتحن القسطنطينية.. فلنعم الأمير أميرها.. ولنعم الجيش ذلك الجيش" 

قال لي الأمير الفاتح في الميدان ناظرا إلى رأسي : 

- "رادو" هل تضعون الحناء على شعور الرجال في والاكيا ؟ 

أمسكت بشعري الذهبي في استغراب ثم ابتسمت بفهم قائلًا : 
_135_

- بل كنت أضع الحناء لسيفي ياسيدي.. لكن يبدو أن بعضا منها تناثر على رأسي. 

كان رأسي مضرجا بدماء الأعداء.. لكن رأسي لم يكن مهما.. كان المهم هو الخبر الذي جاءنا به مرسول الدولة.. لقد أعلنت والاكيا التمرد على السلطان.. لقد تمرد "دراكولا".. فعلها وتمرد.. لم يُرد السلطان "محمد الفاتح" أن يعكر صفو انتصاره بهذا الخبر.. لذا فقد سكت.. وأنا أعرف الفاتح عندما يسكت عن مثل هذا.. يبدو أن الأيام تدخر لنا معارك جديدة.. معارك مع أولي القربى. 

لكن "دراكولا" كان يفعل شيئًا آخر في والاكيا.. لقد تعدى مرحلة إظهار الأنياب وبدأ في مرحلة إخراج القرون والمخالب.. دعني آخذك إلى والاكيا لتشاهد بنفسك.. 

هناك خمسة رجال يلتفون على ما يبدو أنه رجل يصرخ.. وهم يتحركون في عنف وكأنهم يفعلون فيه أمرًا ما.. هاقد ابتعدوا عنه قليلًا وأمكنك أن ترى ما يفعلوه.. لقد ربطوا حبلًا في يده اليمنى وحبلًا في اليسرى.. وثالثًا في قدمه اليمنى ورابعًا في اليسرى.. وقام أضخم اثنين منهم بتثبيته وتراجع ثلاثة منهم.. هل ترى؟ إنهم يربطون أطراف الحبال في جياد.. والرجل يصرخ مستنجدًا بلغة لا تفهمها.. ثم إنهم وجهوا رؤوس الجياد إلى الاتجاهات الأربعة التي تشير إليها أطراف يديه ورجليه المتباعدة.. ثم إنهم وخزوا الجياد فتحركت ببطء ليرتفع الرجل عن الأرض صارخًا.. وظلت الجياد تتحرك تارة وتقف تارة والرجل يتمزق باكيًا.. ثم إنهم ضربوا الجياد بالسياط فثارت وتحركت بعنفٍ سريعٍ.. لتتمزق أطراف الرجل الأربعة وتجري كل منها مع جوادها. 

وهاهو رجل آخر يمسكه رجلان مفتولا العضلات ويرغمانه على الركوع وهو يصرخ.. ويأتي رجلٌ آخر ماسكًا وتدًا خشبيًّا طويلًا مسننا ويطعنه به في دبره طعنه لا تقتل.. يحاول الرجل أن يفلت بلا جدوى.. ثم يقيدون يديه ورِجليه بطريقة معينة إلى الوتد.. ثم يتعاون الثلاثة رجال على رفع الوتد وتثبيته في فتحة بالأرض.. 
_136_

هاهو الرجل أعلى الوتد وكأنه جالس عليه.. ويُترك على هذه الحال حتى يموت.. ليست المشكلة في الموت من الجوع والعطش.. بل المشكلة في أن هذا الوتد ينغرز ببطءٍ شديدٍ في أحشاء الرجل ولا يقتله.. فقط يعذبه من الألم.. ثم يموت الرجل لما يخترقه الوتد ويخرج من جسده أو لما يموت من الألم.. أو من انفجار الأحشاء.. هذا الوتد الذي رأيته الآن هو ما اصطُلح على تسميته بالخازوق.. العقاب الذي اشتهر به "دراكولا" في كتب التاريخ. ويبدو أن "دراكولا" قد أعجبته حكاية الخازوق هذه فأخذ يتفنن فيها تفننًا عجيبًا؛ فمرة يغرز الوتد في فم أحدهم ويعلقه على الوتد مقلوبًا.. وتارة يعلق النساء عليه من فروجهن.. وتارة يغرزه في البطون.. وتارة يغرزه في رقبة طفل رضيع.. لقد كان أخي مختلًّا أو ربما شيطانًا حقيقيًّا.. وبلغ من إعجابه بهذه الطريقة إلى أن جعلها هي العقاب الرسمي لأي خطأ يُخطئه أي فرد من أفراد الشعب.. فمن يسرق يخوزقه.. ومن يكذب يخوزقه.. ومن يضرب أحدًا يخوزق الضارب والمضروب.. بل إنه وصل إلى مرحلة أبعد من هذا.. دعني آخذك إلى هذا المشهد. 

قلعة "دراكولا".. المكان المجهز بكافة وسائل التعذيب التي سأحكي لك نبذات عنها فيما بعد لو أسعفتني ذاكرتي.. عرش "دراكولا".. يجلس عليه شيطان آدمي أمامه طعام وشراب أحمر يبدو وكأنه خمر.. بجانبه كان يجلس أحد النبلاء البولنديين يأكل معه.. أمامهما الكثير من الضحايا المعلقين على الخوازيق يتألمون.. "دراكولا" يبدو مستمتعًا جدًّا بصراخهم وكأنه يسمع ألحانًا عذبة.. أما البولندي فوضع يده على أنفه مشمئزًا من الرائحة الكريهة لبعض الجثث التي ماتت وتعفنت وأبقاها "دراكولا" على حالها ورائحتها.. التفت إليه "دراكولا" وقال : 

- مابك؟ 

- ياسيدي لا أستطيع تحمُّل رائحة العفن هذه ؟ 

- ابأس لابأس سأعالج الأمر. 
_137_

أشار إلى جلاوزته (رجاله) فهجموا على الرجل هجمة رجل واحد.. ثم أمرهم أن يرفعوه على خازوق أطول من كل الخوازيق المعروضة.. صرخ الرجل النبيل البولندي حتى تحول صراخه إلى بكاء لمّا وخزوه بالوتد في دبره ورفعوه وثبتوه.. نظر إليه "دراكولا" قائلًا: 

- أنت الآن في الأعلى أيها الصديق العزيز حيث لن تصل إليك الروائح الكريهة. 

ثم شرب "دراكولا" من الكأس الحمراء التي أمامه والتي يتضح لك لما ترى انسياب السائل فيها أنه ليس خمرًا.. بل هو دم.. دم طازج.. دماء ضحاياه ممزوجة بالخمر.. شرابه المفضل.. الذي كان يحب أن يشربه على آهات المعذبين المسلوخين أمامه كالذبائح والتي تقع على أذنه موقع زقزقة البلابل.. ويحب الطريقة التي يسيل بها الشراب من شفتيه إلى ذقنه.. كان هذا هو "دراكولا" كان يضع قدورًا ويطهو الناس فيها أحياء.. بل ويأمر جلاوزته أن يقَطعوهم بالسيوف وهم داخل القدور أحياء يصرخون.. المرأة الكسولة كانت يدها تقطع وتثبَّت على خازوق مستقل لتكون عبرة لكل النساء.. بل إنه نادى ذات مرة كل فقراء البلدة وشيوخها وأطفالها إلى وليمة عظيمة في سابقة استغرب لها الكل.. وبعد الوليمة قتلهم كلهم.. لأنه لا فائدة تُرجى منهم.. إنما هم يُرهقون الدولة.. ودعني أكتفي بهذا القدر من المصائب.. لأنني لو ذكرت كل ما علِمته لملأت مجلّدًا مستقلًا.. باختصار.. لم يشهد العالم شخصية مختلة مثل هذا من قبل ولا من بعد.. والمصيبة أن هذه الشخصية المختلة كانت أخي. لم يمضِ وقتٌ طويل حتى كان السلطان محمد الفاتح في طريقه إلى والاكيا.. بجيش يسد الأفق.. وكنت معه جنبًا إلى جنب.. في طريقنا إلى "دراكولا".. ظلَّ الجيش يزحف حتى وصل إلى نهر الدانوب.. وكنا نرى جنود "دراكولا" على الجهة الأخرى من النهر.. 
_138_

وكعادة "محمد الفاتح" وكما علمه "محمد" النبي أرسل مبعوثين اثنين من أفضل الرجال إلى الخصم لتسوية الأمور سلميًا.. فإما الجزية وإما الحرب.. وهذا ما حدث مع المبعوثين.. 

دخل المبعوثان المسلمان على الحاكم "دراكولا" في قلعته.. وكان قد أزال كل الخوازيق لغرض في نفسه.. 

- السلام عليكم ياحاكم والاكيا.. جئتك من السلطان بكتاب يقول فيه.. أس.. 

- انزعا غطاء رأسيكما. 

توقف المبعوث عن الكلام في دهشة.. قال "دراكولا" بغضبٍ: 

- انزع غطاء رأسك أنت وهو.. ماهذه العمائم الطويلة السخيفة؟ 

- إنها تقليد عثماني أيها الحاكم.. وعظمة تقاليدنا أهم من مزاجك المتعكر. 

- لا بأس.. سأبقيه لكما.. كما تشاءان. 

وأشار إلى جلاوزته المجانين الذين أحاطوا بالمبعوثين في سرعة وأمسكوا بعمائمهم في إحكام ثم قاموا بأمر شديد الغرابة والوحشية.. جاءوا بمسامير صغيرة رفيعة... وقيدوا المبعوثين.. ودقوا المسامير في عمائم المبعوثين لتخترق رؤوسهم وتسيل دماء رؤوسهم على أعينهم.. قال لهم دراكولا : 

- هكذا ستبقى عمائمكم على رؤوسكم إلى الأبد.. اذهبوا إلى السلطان "محمد الفاتح" وأخبروه كيف أن "دراكولا" لم ينسَ التقاليد العثمانية.. وخاصة المتعلقة منها بإبقاء العمائم على الرؤوس. 

عاد المبعوثون ودماؤهم المندهشة تسيل على وجوههم.. وحكوا ما حدث معهم للسلطان الذي غضب غضبة لم أره قد غضبَ مثلها في حياته.. أمر السلطان أن تتحرك سرية قوامها عشرون ألف رجلٍ لتخترق جيوش العدو.. أي ما يساوي ثلاثة أضعاف جيش "دراكولا".. وكان قائد الجيش فارسًا شجاعًا مسلم اسمه "حمزة".. أفضل فرسان جيش السلطان في ذلك الوقت. 
_139_

وكانت المفاجأة التي لم يتوقعها أحد.. لقد انهزم جيش السلطان هزيمة نكراء لم ينهزم مثلها من قبل.. ولم نرَ إلا "محمد الفاتح" يقف بجواده على قوائمه الخلفية ثم ينطلق به كالسهم وانطلقنا كلنا خلفه.. بجيش قوامه عشرون ألفًا آخرون يملؤهم الغضب وشهوة الانتقام. 

وهانحن نخترق نهر الدانوب.. يالها من عزة تلك التي كنا فيها.. يالروعة هذا الدين.. لقد عادت إلي ذكريات قتالي في القسطنطينية.. أن تركض بجوادك بين عشرين ألف فارس مسلم ترك الدنيا وراءه ولم يعد يرى إلا الشهادة هو أمر لن أقدر أن أوصله إلى مخيلتك أبدًا.. أمر عظيم.. وهانحن ندخل من أبواب المدينة.. وهانحن.. شعرت بحركة غير طبيعية في مقدمة الجيش.. وكنت أنا في أوسط الجيش.. رأيت الجمع قد تباطأت سرعته وسمعت أصواتًا تبدو وكأنها نحيب في مقدمة الجيش.. لم أفهم ما الأمر.. لماذا توقَّف الرجال؟ اخترقت الصفوف بسرعة حتى اتضحت لي الصورة.. الصورة التي جعلت عينيَّ تتسعان حتى كادتا أن تخرجا من مكانهما وتذهبان بعيدًا احتجاجًا على هذا الهول الذي ترونه.. وتوقف جيش السلطان بل توقف السلطان نفسه بكل شجاعته.. انظر أمامك.. ألا ترى ما نراه؟ 

إنها غابة كثيفة.. بل غابتان كثيفتان.. غابة عن يميننا.. وغابة عن شمالنا.. غابتان جذوعهما أوتاد خشبية.. أغصانهما أياد وأقدام بشرية حية وميتة.. أوراقهما أجساد مخوزقة على الأوتاد. . أجساد خرجت منها أرواحها أو لم تخرج.. أجساد تنظر لنا بأعينها وتقول الله أكبر.. وكان للغابتين صوت.. صوت آهات ونحيب.. وصوت يذكر الله.. إنها السرية التي أرسلها محمد الفاتح.. لقد وضعهم الشيطان جميعًا على الخوازيق.. عشرة آلاف وتدًا عن يميننا وعشرة آلاف عن شمالنا. 
_140_

توتر الجيش.. تعالت صيحات البكاء على الأهل أحيانًا أو على الرفاق.. أو على إخوة مسلمين أو على الإنسانية.. وقف "محمد الفاتح" مذهولًا.. وجعل يتذكر طفولته مع "دراكولا".. ذلك الطفل الحقود الذي كان يناوشه ليل نهار.. الآن لم يعد طفلا.. بل صار شيطانًا رجيمًا.. يناوشه أيضًا.. نظر إلى ناحيتي.. كيف أنجبتكما بطن واحدة.. كيف رباكما أب واحد.. كيف صار أحدكما فارسًا مسلمًا وصار الآخر ماردًا من مردة الجحيم.. نظر "محمد الفاتح" إلى جيشه.. لقد انهارت كل جذوة حماس بداخلهم.. التفت "محمد الفاتح" لأول مرة في عمره بجواده لجهة العودة وقال : 

- ليس اليوم يوم زحفنا.. لكن بحق هذه الأرواح الطاهرة وبحق كل قطرة دماء.. سنأتي برأس هذا الشيطان على وتد نضعه في منتصف القسطنطينية يرميه صبيانها بالحجارة. 

والتفت جيش المسلمين عائدين من حيث أتوا.. لم تكن الحرب هذه المرة مع حاكم عادي.. لقد كانت مع "دراكولا".. الشيطان. 

كان مستحيلًا في ذلك الوقت أن تفعل ما فعلت بالمسلمين وتنجو بفعلتك.. كان "محمد الفاتح" يجهز جيشًا قوامه ستون ألف رجل.. مليء بالخيول والمدافع والغضب.. وجعلني أنا على رأس هذا الجيش قائلًا: 

- اذهب يا "رادو" وائتني برأس أخيك.. إن عرش والاكيا لم يُخلق لتعتليه الشياطين.. إن عرش والاكيا قد خُلِق من أجلك أنت. 

- سآتيك به ياسيدي قبل أن تجف دماء شهدائنا في والاكيا. 

وانطلقتُ على رأس ستين ألف رجلٍ إلى والاكيا.. وفي هذه المرة سمع "دراكولا" بخبرنا وبعددنا ففعل شيئًا عجيبًا؛ ترك عاصمة والاكيا واتخذ طريقًا إلى بوينار.. وجيشنا يطارده بغضبٍ.. العجيب أنه كان يحرق مخازن الحبوب والطعام ويسمم الآبار في كل مدينة يدخلها ليتركنا بدون مؤونة.. فجيوش تلك الأيام كانت تزحف على معدتها.. 
_141_

أي أنها كانت تعتمد في الإطعام على المدن التي تدخلها.. لكن هذا لم يفت في رجال كان الذَكر طعامهم وشرابهم.. طاردنا "دراكولا" لمدة طويلة جدًا.. ودخلنا في عدة معارك مع جيوشه.. فزنا باثنتين وخسرنا في ثلاث.. كان كالشيطان يهاجم في آخر الليل.. لكننا استبسلنا حتى حاصرناه تمامًا في قلعته في بوينار.. وانطلقت أنا وورائي جميع الرجال لنحطم بحوافر جيادنا أبواب قلعته.. ونزلت من على ظهر جوادي وأخرجت سيفي من غمده وجعلت أبحث عن الرأس.. رأس الشيطان. 

قال لي "دراكولا" وكان يقف في ساحة خارجية تتوسط قصره: 

- خنت بلادك يا "رادو" وألبسوك عمتهم الطويلة الخاوية ؟ 

- بل عرف قلبي طريقًا تاه عنه سنين طوال.. طريق تقع في نهايته رأسك. 

ورفعت سيفي كما ترفع الفرسان سيوفها.. لأجد "دراكولا" يرمي بسيفه بعيدًا ويفعل آخر شيء توقعته في تلك اللحظة.. قفز في بئر بمنتصف الساحة.. أسرعت إلى البئر لأنظر بداخله في غضب لأرى "دراكولا" ينظر لي بسخرية ثم يركض هاربًا في طريق أسفل البئر.. عزمت على اللحاق به لكنني رأيت رجاله قد أتوا في الأسفل وأوقدوا نارًا عظيمة ارتفع لهيبها إلى أعلى البئر حتى كاد أن يلفح رأسي.. كان هذا نفقا سريًّا من أنفاقه التي عُرف لاحقًا أنه قد بناها في كافة قلاعه.. لقد هرب "دراكولا".. هرب وترك لنا والاكيا. 

هرب "دراكولا" إلى هنغاريا ليطلب الدعم من ملكها.. ولكن ملكها بدلًا أن يقدم له الدعم قام بأسره وسجنه في هنغاريا.. وظلَّ مسجونا سنينَ طويلة.. وأصبحت أنا أميرًا على والاكيا حكمت فيها بالعدل وجعلت شعب والاكيا ينسى كل ما فعله به "دراكولا".. حكمت والاكيا تسع سنوات كاملة.. تزوجت فيها امرأة مسلمة وأنجبت طفلة جميلة مسلمة هي "ماريا".. ثم أتاني أجلي وخرجت روحي إلى حيث مستقرها.. ومن جاء بعدي لحكم والاكيا كان رجلًا خارجًا من سجن سنين طوال في هنغاريا.. رجل يدعى الشيطان.. "دراكولا". 
_142_

شهر واحد فقط حاول فيها الشيطان أن يُعيد أسطورة حكمه في والاكيا.. شهر واحد انتهى برأسه مقطوعة على رماح أحد الحشاشين المتبقين بعد أن أباد "هولاكو" دولتهم.. ذلك الحشاش الذي أمسك بالرأس وغمسها في العسل ثم أرسلها إلى القسطنطينية.. إلى "محمد الفاتح" حتى يستلمها طازجة.. رأس "دراكولا" التي عُلقت في القسطنطينية في البلاط العثماني ليتفل عليها من يتفل ويرميها بحجارته من يرمي.. رأس حَوَت عينين كانتا متجبرتين متغطرستين.. والآن أصبحتا مفقوئتين تنظران إلى الأرض في ذُل. 

كان "دراكولا" مختلًّا عقليًّا.. فقد بلغنا أنه كان يفعل أشياء عجيبة جدًّا في سجنه في هنغاريا.. كان يصطاد الحشرات والقوارض ويخوزقها على أعواد صغيرة من أغصان الشجر.. ويتسلى برؤيتها تموت.. أي شيطان هذا.. بل أي مخبول.. لكنه أخذ منا ما يستحقه.. ولقد خُلقنا فرسانًا لنوقف أمثال هذا عند حده. . ولا نخشاه وإن خرجت له أجنحة يطير بها.. لا نخشى إلا غضبة من خلقنا.. لهذا خُلقنا فرسانا.. بل لهذا خُلقنا مسلمين. 

تمَّت 


***



_143_

ستعرف في حديثي هذا أمورًا.. وستُنكر أمورًا أكثر.. ستعجبك فيه أمورًا.. وستكره أمورًا.. لكن دعني أخبرك بأمرٍ هامٍ: أنا لن أكذب عليك أبدًا.. أنا فقط سأخبرك بالحقيقة التي لم يخبرك إياها قبلي أحدٌ.. سأعلمك أسرارًا لم يكن ينبغي على من مثلك معرفتها.. ولو أنني كذبت عليك ما قتلوني.. بل لكافؤوني واحتفوا بي كما يفعلون مع الجميع.. 
إنانا image


اهبطي يا "إنانا" . .

1900 قبل الميلاد



نظر بافتتان إلى جسدها شِبه العاري والمستلقي في استسلام عجيب على ذلك السرير الوثير ذي الأغطية الحمراء.. والذي تنبعث من حوله إضاءة حمراء خافتة لشموع صغيرة أضفت جوًّا محبَّبًا من اللذة.. اقترب من جسدها حتى دخلَ في مجال عطرها.. تنفَّسه في نشوة.. ثم غشيته الشهوة فتحركت يده بسرعة إلى شعرها فقبضت عليه في عنف رومانسي يجيده كما يجيد التقبيل . 

اقترب وجهه من وجهها.. لفحتها أنفاسه الحارة.. نظر إلى شفتيها عن قُربٍ.. ليست هاتان شفتين.. إنما هذا توت أو ياقوت.. قبّلهما بعنف رجولي يعجب النساء.. نظر إلى عينيها.. هذه المرأة كل ما فيها جميل.. ظلَّ يقبِّل شفتيها ووجنتيها وعينيها حتى ثمل . 

إن الكاميرا التي تصوِّر لك هذا المشهد تصوِّره لك عن قُربٍ متعمَّدٍ؛ فتارة ترى شفتيْ الفتاة وهو يقبِّلهما ببطء وتارة تركز الكاميرًا على عينيها الجميلتين الساهمتين في أمرٍ ما لا تدري ما هو.. ثم تقرر الكاميرا أن تلتف حول وجهها لتصورها لك من الخلف.. إن لها شعرًا أسود طويلًا يمسكه الرجل بقبضة يده القوية بينما شفتاه آخذتان في تقبيلها بحرارة . 

بدأت الكاميرا تنزل شيئًا فشيئًا منذرة بمشهدٍ خلفيٍّ لجسد عارٍ فاتن يناسب جمال هذا الوجه.. وظلت الكاميرا تنزل ببطءٍ حتى تسارعت دقات قلبك المحروم وبرزت عيناك من اللهفة لما ستراه بعد قليل.. ثم اتسعت عيناك.. ولم يكن اتساعها عن شهوة ولا نشوة.. بل لقد اتسعت عيناك من الذعر.. فلما انتهت الكاميرا إلى نهاية شعر الفتاة لم ترَ ظهرها عاريًا كما هو مفترض.. بل لم ترَ شيئًا على الإطلاق.. لم ترَ إلا رداء الرجل.. ثم ابتعدت الكاميرا بسخرية شيئًا فشيئًا لتريك المشهد الكامل.. مشهد لرجل يقف ممسكًا برأس فتاة ويقبِّلها بنهمٍ بينما يستلقي جسدها بعيدًا.. على فراش وثير.. وأغطية حمراء.. وعزفت لك الكاميرا موسيقى رومانسية جميلة إمعانًا في السخرية. 
_49_

لما شبع الرجل أبعد وجهه عنها قليلًا ونظر إلى الرأس المقطوع بتشفٍّ.. ثم رمى الرأس الجميل حتى اصطدم بالحائط بعنفٍ واستقر على الأرض.. وهو في رحلته هذه - الرأس- صنع بقعة من الدماء على الجدار متصلة إلى موضع الرأس الساكن على الأرض.. نظر الرجل إلى البقعة بلا مبالاة ثم اتجه بعيدًا عن السرير.. يمكنك أن ترى الأرضية الآن.. أرضية رخامية جميلة .. لكن أفسد جمالها بضع دوائر مرسومة عليها داخل بعضها البعض في شكلٍ مريبٍ. 

مرحبًا بك في بابل مرة أخرى.. الأرض الملعونة.. نحن في عهد ما بعد النمرود.. لا تدع المشهد السابق يصدمك.. ولاتحزن على الفاتنة أبدًا فهي "إنانا".. وهي ملعونة في الأرض وملعونة في السماء.. ولا تستغرب من هذا الرجل ذي الرداء فهو "هازارد".. و"هازارد" هو أشد سحرة بابل فتكًا في ذلك الزمان.. وقبل أن نكمل المشهد لابد أن تعرف معلومة واحدة.. وهي أن هذا الساحر يلقَّب ب "مانزازو".. و"مانزازو" في البابلية تعني نكرومانسر.. ونكرومانسر تعني.. فلنتابع المشهد لنفهم أكثر.. 

وقف الرجل في وسط الدوائر.. كان يرتدي إزارا طويلًا أحمر عليه خطوط سوداء عريضة.. تنحدر على ظهره قلنسوة رداء الراهب المعروفة.. أخذ يتلو الكثير من التراتيل التي يرتفع فيها صوته حينًا وينخفض حينًا آخر.. وترتفع يداه فيها حينًا وتنخفض حينًا آخر.. ثم إنه خرج من الدوائر وتوجَّه إلى رأس "إنانا" الملعونة وأمسك بشعرها الجميل ثم انحنى بالرأس على الرخام وأخذ يفعل شيئًا عجيبًا. 

وضع الرأس على الأرض وأخذ يحرِّكه في اتجاهات مختلفة ويضغط على مواضع معينة منه.. هذا رجل يعرف ماذا يفعل.. لم يكن بإمكانك أن تفهم ماذا يفعل إلا بعد أن انتهى مما يفعل ورمى الرأس بعيدًا مرة أخرى.. لقد كان هذا الرجل يكتب.. وقلمه كان رأس "إنانا".. ومُداده دمها.. بالطبع لن تفهم حرفًا مما كتب لأنه كتبه بلغة بابلية قديمة.. إن حروف هذه اللغة تبدو مخيفة. 
_50_

ثم أخذ يتلو بصوتٍ متهدج يجيده السحرة : 

- إيتيمو.. إيتيمو.. من فلكك الملعون الدائري اهبطي يا "إنانا".. يا من انحنت لشفتيك هامات الرجال ونواصيهم.. إيتيمو.. إيتيمو.. يامن تنزهت قلوب عن كبريائها بنظرة من عينيك. 

وأخذ يتلو ويتلو حتى أُوقدَت نار من مكان ما حول دوائره.. وصار يهيأ له أنه يرى رؤوس الشياطين.. رؤوس بشعة تلفحها النار التي أوقدتها التلاوات.. ومن بين رؤوس الشياطين برزت له رأس ثم اختفت ثم برزت.. رأس "إينانا".. أو هكذا خُيَّل له.. لابد أن قلب هذا الرجل شديد الثبات.. إن رؤوس الشياطين والحق يقال مخيفة.. مخيفة إلى درجة أن رأس "إينانا" الجميلة التي ظهرت وسطها فقدت جاذبيتها.. ثم انطفأت النار فجأة وأضرمت في مكانٍ آخر.. أضرمت في رأس "إينانا" الحقيقية الملقاة على الأرض. 

لم تكن هذه نارًا وإنما كانت خيالات أودعتها الشياطين في عين "هازارد".. ويبدو أن ما كان يفعله نجح.. وحضرت من تستقي كل جمالات النساء من جمالها.. حضرت "إينانا".. أو كما يلقبها الرومان "فينوس".. ويتحدث اليونان عنها باسم "أفروديت".. أو كما عبدها العرب باسم "اللات".. حضرت "عشتار" كما يناديها البابليون.. جاءت كما يجب أن تجيء آلهة الجمال.. جاءت في أبهى ثوب وأحلى زينة. 

جاءت كطيفٍ أضاء جوانب هذا المشهد المظلم.. بُهِتَ "هازارد" للحظات أمام عظمة هذا الجمال.. ثم تمالك نفسه وقال لها : 

- "إينانا" أيتها الأميرة.. حدثيني بخبر الساحرين "عزازيل" و"شمهازي".. عن رحلتك المقدسة حدثيني يا "إينانا". 

نظرت "فينوس" بجمال عينيها إليه بنظرة كانت للسخرية أقرب وقالت : 
_51_

- لم يكونا ساحرين يا "هازارد".. ولم تكن هذه أسماؤهما.. بل كان أحدهما يدعى "هاروت".. واسم الآخر "ماروت" .. ولم تكن رحلتي مقدسة.. إنما كانت ملعونة. اندهشت تعابير "هازارد" الصارمة وقال : 

- أرجوك يا سيدة أهل الجمال أخبريني بكل ما رأيت كما رأيت. 

تقدمت "فينوس" بخطوات ملكية إلى منتصف الدوائر المرسومة على الأرض.. ثم رفعت ثوبها الطويل قليلًا وجلست مكانها.. وبدأت تحكي.. 

تقول "فينوس".. 

إنما كنت مبعوثة من قِبَل سحرة "أوروك" إلى مدينة بابل.. وأنت تعلم عظمة مدينة أوروك وتفوقها في علوم السحر.. إنها المرة الوحيدة التي أخرج فيها من مدينتي الحبيبة أوروك.. والمرة الأخيرة في الواقع.. كانت القصة أنه أتى إلى كبار سحرة أوروك نبأ وجود ساحرين في مدينة بابل طغى سحرهما على سحرة بابل كلهم من أكبرهم إلى أصغرهم.. وأن أحدهما يدعى "عزازيل" والآخر يدعى "شمهازي". 

وقيل إن هذين الساحرين يُعلّمان الناس السحر بلا مقابل.. بل ويطلبان ممن يتعلّمه منهما أن ينشره بين أكبر عدد ممكن من الناس أو هكذا قيل عنهما.. كانت مهمتي أن أتعلم منهما كل ما يُعلّمانه للناس وما يخفيانه عن الناس.. وأنت تعرف أنه لم يُخلَق رجل ملكًا كان أو ساحرًا.. شابًا كان أو شيخًا.. أمكنه أن يصمد أمام سحري الخاص.. سحري الأنثوي الخاص.. الخلاصة أنني كنت الوحيدة المناسبة للقيام بهذه المهمة.. وكان عليَّ أن أدوِّن كل أتوصَّل إليه وأنقله إلى سحرة "أوروك". 

المشكلة أن سحر هذين الساحرين أبطَل كل سحرٍ كان يبرع فيه سحرة بابل أجمعين.. كان هذا كلاما عجيبًا جدًا.. فهناك أصناف من السحر في بابل لم يستطع أعتى السحرة في أوروك فهمها.. 
_52_

فضلًا عن معرفة كيفية فكها فكها.. مثل سحر اللوحة؛ تلك اللوحة التي قد رسموا عليها أنهار بابل كلها.. فإذا خالفهم الناس في أمرٍ يريدونه وضعوا إبرة في موضع أحد الأنهار في الرسمة.. فإذا فعلوا هذا توقف جريان النهر الحقيقي وغار ماؤه. وسحر المرآة.. فمن غاب له عزيز كان يأتي سحرة بابل ويقدم لهم ما يطلبونه.. فيسمحون له أن ينظر في المرآة ليرى ذلك الغائب على حاله التي هو عليها.. المشكلة أن سحر هذين الساحرين كان يبطل كل هذا وأكثر منه. 

رائعة هي بابل.. بغضّ النظر عن مهمتي التي لم أكن متحمسة جدًّا لها.. كان لابد من رؤية برج بابل العظيم وحدائقها المعلقة.. ورغم أن هذين كان لا يدخلهما سوى ملك آشور وعائلته إلا أنك تعرف حكاياتي مع الملوك.. وتعرف أن آخر ملك زرته انتهى به الأمر راكعًا تحت قدمي يقبّلهما.. وكنت أعرف أن هذين الساحرين سيركعان تحت قدمي بدورهما وسيُقرّان لي بكل ما تعلماه منذ كانا أطفالًا يلعبان في المروج. 

لكنني منذ أن بدأت أسأل عن "عزازيل" و"شمهازي" هؤلاء كنت أسمع قولًا عجبًا.. قيل لي إن لديهما مغارة على حدود بابل الجبلية.. وأن هذه المغارة يقصدها الآن نفر كثير من أهل بابل.. ومن يذهب إليها يُختبر اختبارًا غريبًا.. فلو فشل فيه يُطرَد ويعود.. ولو نجح فيه يدخل إلى هذه المغارة ويظل فيها سنة كاملة لا يخرج منها.. ولما يخرج.. يكون لديه من الفنون والعلوم ما يفوق عِلم أي ساحر في بابل أو خارج بابل.. ولا يتمكن أي ساحر أن يسخِّره كما يسخر عامة الناس. 

لم تكن المغارة تُفتَح إلا يومًا واحدًا فقط في السنة كلها وتظل بقية السنة مغلقة فلا يقدر على فتحها أعتى الجبابرة.. وقد كان ذلك اليوم الذي تُفتح فيه تلك المغارة قريبًا جدًا.. لطالما كنت محظوظة.. وها أنا ذا يسوقني راع أُعجب بجمالي على حصانه ويتجه بي إلى تلك المغارة.. 
_53_

- ها قد وصلنا أيتها الفاتنة.. هذه هي المغارة.. لا أدري ما الذي يُجبر أميرة من أميرات الإنس أن تدخل إلى هذا المكان. 

- لا شأن لك بهذا أيها الراعي.. انتظرني هنا.. فإن لم أخرج لك عد إلى ديارك. 

- يمكنني أن أنتظرك العمر كله يا أميرتي.. فالديار من بعد رؤياك ستصير قبورًا. 

يحق للراعي أن يقول هذا وأكثر.. فقد كان يحمل "فينوس" بنفسها.. دعنا منه الآن.. لم يكن منظر المغارة يوحي بأن لها شأنًا ما.. كانت مجرد فتحة صغيرة في الجبل.. وكان واقفًا أمامها رجال كثير ونساء.. وقد وقفت معهم حتى خرج لنا الساحران إياهما.. وليتني لم أرهما. 

كانت المرة الأولى التي أرى فيها بشرًا أجمل منِّي.. ليس واحدًا بل اثنين.. وليستا امرأتين بل رجلين.. المرة الأولى التي يخفق فيها قلبي بهذه القوة.. منذ متى كان الرجال بهذا الجمال.. منذ متى كانت الرجولة بهذه القوة.. يبدو أن مهمتي هنا قد فشلت قبل أن تبدأ.. فمجرد النظر إلى هذين الرجلين كان ينسيني ما كنت آتية بشأنه. 

دخلت المغارة مع الساحرين الوسيمين.. وقد أبقى ما رأيته بداخل المغارة شفتاي مفتوحتان من الدهشة.. كيف يمكنني أن أصف شيئًا كهذا.. في البداية حتى يمكنني أن أنقل لك ما رأيته يجب أن تلغي كل الصور التي في ذهنك عن الكهوف والمغارات التي تكون دائمًا ضيقة.. هذه المغارة كانت واسعة كالقصر.. سقفها بعيد جدًّا عن رؤوسنا.. يجري أمامنا نهر أوله عند قدمي وآخره في الأفق.. ينبع من نبع ماء عذب قريب.. الجدران تبدو وكأن بها شيئًا مختلفًا.. فهي ليست صمَّاء ككل الصخور.. بل هي مليئة بالشقوق الصغيرة الدقيقة جدًّا والتي تُظهِر الشكل العام للجدران من بعيد وكأنها مزخرفة.. كانت هذه هي أول صورة قابلَتْها عيناي. 
_54_

أخذنا الرجلان فأوقفانا على حافة النهر الجاري.. وطلبا منا طلبًا غريبًا جدًا.. يبدو أن هذا هو الاختبار الذي يقولون عنه.. طلبا منا واحدًا واحدًا أن نتفل في النهر ثلاث تفلات.. قالا إن هذا اختبارٌ صغيرٌ يعرفان به الساحر من غيره.. كنت الثالثة في الطابور.. تفل الرجل الواقف في بداية الصف مرته الأولى.. نظرت إلى الماء لعلي أرى شيئًا؛ فرأيت نقطة زرقاء تمضي مع النهر في جريانه.. ورأيت مثل هذا في تفلته الثانية والثالثة.. اقترب منه أحد الساحرين الوسيمين وطلب من أحد رجاله أن يأخذه معه إلى صخرة ما لست أذكر اسمها. 

ثم تفل الرجل الثاني.. نظرت إلى المياه فرأيت نقطة حمراء تجري مع جريانه.. ورأيت مثلها عندما تفل الثانية والثالثة.. قال له أحد الساحرين الوسيمين بلهجة معاتبة: 

- ليس هذا مكان لمن تعلموا السحر في مكان آخر. 

وساقه أحد الرجال إلى الخارج.. والآن جاء دوري.. الآن فهمت الاختبار فابتسمت بثقة.. أنا لم أتعلم السحر في أي مكان.. تقلت ثلاث تفلات رقيقة في الماء.. ونظرت إليها فوجدتها كلها زرقاء.. وهنا أخذني أحد الرجال إلى تلك الصخرة إياها التي نسيت اسمها. 

كانت صخرة ضخمة تقف بشموخ في وسط النهر.. وكانت مليئة بالشقوق الصغيرة إياها.. لكن هناك جملة قد كُتِبَت في أعلى الصخرة باللغة البابلية.. جملة تقول " من فُتن بنا فليس منا.. من فُتن بنا فقد كفر".. لم أفهم شيئًا ولم أكترث.. الجميل في هذه المغارة العجيبة أن فيها غرفًا منحوتة في الجدران.. أشعر أن هذه ليست مغارة.. أشعر أنها قرية صغيرة عجيبة.. عرفت معلومة أخرى لم أكن أدري كيف وصل غبائي لئلا يفكر فيها من قبل.. 
_55_

نحن لن نخرج من المغارة إلا بعد سنة كاملة لا ينفتح فيها بابها كما قال الأهالي.. فماذا سنأكل؟ 

كان الطعام هو النواشف التي لا تفسد.. مثل الزبيب والجوز واللوز التي يأتون بها بكميات كبيرة جدًّا ويخزنونها لتكون لنا طعامًا.. والشرب هو من مياه النبع العذبة.. هكذا فهمت كيف تدار الأمور هنا.. لكن بالنسبة لمهمتي فلا أدري.. كل هذا لم يكن بحسباني.. ثم إن الرجلين لم ينظرا لي لأكثر من ثانية.. أنا أعرف الرجال عندما ينظرون إليَّ.. أعرف كيف يتوترون لما يحدثونني.. لكن هذين الوسيمين أشعراني بأني جدار لا تأثير له على أحدٍ.. لكن لم يُخلَق رجل وقف أمام "فينوس".. ولن يخلق. 

في كل يوم كان يمر عليً وأنا في هذه المغارة أعرف مقدار خطورة المهمة التي أُرسلتُ فيها.. علمت أن السحرة الذين كانوا يسخّروننا لخدمتهم إنما هم حثالة الناس يا "هازارد".. بل إن الحيوانات أطهر منكم يا "هازارد".. تعلمت أن قدرتكم الإعجازية هي في الحقيقة ليست قدرتكم وليست إعجازية.. إنما هي قدرات الشياطين الذين بعتم لهم كرامتكم.. عرفت في تلك المغارة معنى الإعجاز الحقيقي.. علمت أن الكواكب السبعة والشمس والقمر التي يُعلمنا سحرتنا أن نتقرب لها ونعبدها ما هي إلا أجرام وأن لها إلهًا واحدًا هو إله "إبراهيم".. وعلى مثل "إبراهيم" تكون المعجزات.. علمت أن كل ماتفعلونه وهم.. وكل ما تقولونه وهم.. علمت أن أولئك السحرة هم أضعف شيء وأن الشياطين هم أضعف شيء.. علمت لكل تعويذة ساحر تعويذة تفكها.. علمت أن "عزازيل" و"شمهازي" هي أسماء شريرة أشاعها السحرة عن الساحرين الوسيمين.. لقد كان اسمهما يبدو أجنبيًّا جدًّا وجميلًا جدًا.. كان أحدهما يدعى "هاروت" والآخر "ماروت". 

"وما يعلمان من أحدٍ حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر" 
_56_

لكن هذين الساحرين لم يكونا يقدمان ملكًا ولا سلطانًا.. ولا يقدمان ذهبًا ولا فضة.. من يخرج من تحت أيديهما يكون مصونًا لا يقدر عليه أعتى ساحر.. لأنه يعرف الحقيقة.. وبالنسبة لي في ذلك الوقت فقد قررت أن أجمع بين الاثنين.. أن أعرف الحقيقة حتى لا يكون لساحر سلطانٌ عليَّ.. وأن ألبس الذهب والفضة.. وليس هذا يأتي إلا بإتمام مهمتي هنا والعودة إلى سحرة أوروك بكل ما تعلمته.. ولكني سأشترط أن أكون أميرة يا "هازارد".. سأملك كل أولئك السحرة وسيركع تحت قدميَّ الجميلتين كل الملوك والسحرة الذين يسيرون الملوك. 

يلقبونني بالزُهرة.. لأن حُسني بين كل النساء كحُسن الزهرة على سائر الكواكب السبعة.. ورجلان مثل "هاروت" و"ماروت" لابد أن لهما رغبات مثل كل الرجال.. مثل كل البشر.. وفي ذات ليلة يا "هازارد".. كان كل من في المغارة يغُط في سبات عميق.. خرجت من غرفتي المنحوتة في الصخر وليس على جسدي الجميل سوى ملاءة صغيرة تبدي أكثر مما تخفي.. إن "فينوس" آتية.. إن سيدة الأقمار السبعة آتية. 

مشيت في هذه المغارة بمحاذاة النبع إلى المكان الذي يُفترض أن يكون غرفة الساحرين.. لم تكن المرة الأولى التي سأرى فيها تلك الغرفة على أية حال.. فلي في هذا المكان ما يقرب من التسعة أشهر.. لكنها كانت المرة الأولى التي أمشي فيها وحدي في المغارة في هذا الوقت.. كانت هناك مشاعل معلقة على الجدران في أكثر من موضع لتضيء المغارة كل الوقت.. فلسنا ندري أفي نهار نحن أم ليل.. ظللت أمشي وأنا أضم ملاءتي الصغيرة على جسدي الفاتن. 

ولما اقتربت من غرفتهما سمعت تراتيلَ كثيرة بأصواتهما الجميلة.. ماذا يقول هذان الرجلان بالضبط وأي لغة هذه.. استجمعت أنفاسي ودخلت.. 

- هل يحرَّم على البشر في ناموسكم أن يتكاثروا؟ 
_57_

نظرا إليَّ بلا اكتراث.. يا إلهي إنهما يشعرانني أني نكرة .. ثم إنني أسقطت عن جسدي ثوب الحياء وظهرت أمامهما كما ولدتني أمي.. قلت إني أريد أن آخذ منهما مالم يأخذه بشر قبلي.. نظرا إلى وجهي.. فقط إلى وجهي.. ثم إن "هاروت" قال لي بهدوء جاد : 

- أن تذهبي عنا الآن هو خير لك.. لئلا يلعنك ربي في الملعونين. 

وقال "ماروت" في هدوءٍ أشد: 

- عودي إلى أوروك مدينة الفرات.. ولا تكفري كما كفر قومك. 

قلت في ثورة : 

- بكم قد كفرت وكفرت بربكم.. ما أنتما ببشر.. أنتما من قبيل الشياطين. 

وتبدلت الأرض غير الأرض ورأيت السماءَ لأول مرة.. لم تعد هناك كهوف ولا شقوق ولا "هاروت" ولا "ماروت".. إن هذا لسحر عظيم.. لا ليس هذا بسحر.. إنما هو معجزة.. جريت إلى بابل وليس على جسدي سوى ملاءة قصيرة تبدي أكثر مما تخفي. 

قال "هازارد" بغضبٍ: 

- ألم تمكثي سوى تسعة أشهر؟ وهل دونت ما تعلمت؟ 

قامت "فينوس" عن الأرض ونظرت إلى "هازارد" نظرة أنثوية تجيدها: 

- لقد استغلني الحثالة أمثالك من السحرة في أوروك ودوَّنوا عنِّي كل ما تعلمته ولم أجد نفسي بعدها سوى جثة مقطوعة الرأس.

ثم تحولت نظرتها الجميلة إلى نظرة مخيفة وقالت: 
_58_

- لقد أصبحت ملعونة إلى الأبد يا "هازارد".. لُعِنت مرتين.. مرة لما حاولت أن أفتن ملاكين كريمين.. ومرة لما كفرت بكل ما علماني ونقلته إلى الحثالة أمثالك في أوروك.

تراجع "هازارد" وفقد صرامته مع تقدمها الحثيث منه.. وكانت هذه فرصتها.. لابد أن يكون النكرومانسر قويًّا بما يكفي للسيطرة على الروح التي يود أن يستدعيها.. ولكنه لم يكن يدري.. لقد كانت "فينوس" غاضبة.. وملعونة.. ولقد مزقت روحه شر ممزق.. روحه التي صعدت مع ملائكة العذاب إلى السماء.. السماء التي برق فيها في تلك الليلة كوكبٌ ببريق أحمر جميل.. كوكب الزهرة. 

تمَّت 


***


_59_



ألم يَإن الأوان ياسيدي؟

1950 بعد الميلاد – تاريخ قراءتك لهذه السطور



هذه رسالة ترسلها شيطانة تدعى "سباي" عبر الأثير.. إلى مجهول.. على شبكة مجهولة.. بتردد مجهول.. 

سيدي قد طال الأمد.. قلوبنا وحواسنا وأرواحنا اشتاقت إليك.. حان الوقت يا سيدي.. لقد صار كل شيء كما أردته أن يصير.. فعلنا كل ما علمتنا أن نفعله يا سيدي.. ونجحنا.. لقد نجحنا يا عظيمنا ويا كبيرنا.. نجحنا ولم يعد أمامنا إلا أن نراك.. لم يبقَ إلا أن تُطفىء نار الشوق في قلوب ذابت من قسوة الانتظار.. دهورًا وراءها دهور.. ألم يئن الأوان ياسيدي؟ 

كل شيء أمرتنا أن نفعله فعلناه كما أمرت.. أنا أذكر كل تعاليمك بحذافيرها.. إن علمك ليس له أي حدود.. أذكر كيف كان البشر في الحرب العالمية الثانية قد اخترعوا جهازًا ضخمًا بحجم عدة غرف وسموه "الإينياك".. أذكر ياسيدي كيف علمتنا أن هؤلاء البشر حمقى وأمرتنا أن نقدم إليهم جهازهم البشع الضخم هذا في شريحة من السيليكون لا يتجاوز حجمها حجم الأنملة شريحة سموها المعالج أو ال Processor .. أذكر سعادتهم وهم يظنون أن ما حدث كان من بنات أفكارهم.. وكيف تمكَّنوا لأول مرة في حياتهم من صنع جهاز ذكي بحجم التلفاز .. جهاز سموه الكمبيوتر. 

كانوا يستخدمون الكمبيوتر في شركاتهم وحساباتهم الغبية العديمة الفائدة.. ثم أمرتنا ياسيدي فنفذنا أمرك.. وعلمتنا ياسيدي فطبقنا علمك.. أمرتنا أن نُدخل الكمبيوتر في كل بيت من بيوت العالم.. وعلمتنا كيف نفعل ذلك بتطوير برامج ذات واجهة تفاعلية جذَّابة.. برامج علمتنا أن نسميها "ويندوز".. لتكون كما يوحي اسمها.. نافذة من نوافذ البيت.. نافذة إلى الداخل وليس إلى الخارج.. وبرامج أخرى علمتنا أن نسميها ماكينتوش.. وهو اسم مقتبس من عائلة اسكتلندية تحمل نفس الاسم. . وهو يعني بالاسكتلندية "ابن الزعيم".. وهو اسم يدل عليك بدقة.. فأنت زعيمنا.. وابن زعيمنا. 
_279_

يالسعة علمك. . ويالعظمة نورك ياسيدي.. إن الكمبيوتر داخل كل بيت كان مخزنًا يضع عليه المرء وثائقه وصوره وفيديوهاته.. وعلى المستوى العسكري كان نقل المعلومة من كمبيوتر في بلدٍ ما إلى كمبيوتر آخر في بلد أخرى يتم يدويًّا.. فتفضلت علينا ياسيدي وعلمتنا أن نعلمهم كيف يمكنهم أن يوصلوا بين عدة كمبيوترات بأسلاك تليفونية.. وبهذا صَنعت وزارة الدفاع الأمريكية (داربا) أول شبكة لنقل المعلومات العسكرية وسموها "أربانِت".. يظنون أنفسهم أذكياء.. ولا يدرون أنك ياسيدي المعلم الأعظم. 

كانت "أربانِت" توصل بين أربعة أجهزة في غرب أمريكا.. ثم أصبحت توصل بين مئات الأجهزة داخل وخارج أمريكا.. أجهزة في مؤسسات عسكرية وجامعات.. لكن لاختلاف أنظمة الأجهزة بينها وبين بعضها وجد البشر الحمقى أنفسهم عاجزين عن نقل المعلومات فيما يقرب من نصف الحالات.. وهنا أمرتنا ياسيدي وعلمتنا أن نوحي إليهم من وحي علمك.. فأوحينا إليهم بلغة عالمية تفهمها كل الأجهزة في جميع أنحاء العالم.. لغة سموها HTML .. وعلمناهم كيف يعطون كل وثيقة يريدون نقلها أو أي صورة عنوانا يميزها.. عنوان سموه URL. 

وبهذا تمكنوا من نقل كل شيء من أي جهاز إلى أي جهاز آخر بسرعة عالية.. وأصبح يمكن لكمبيوتر في فرنسا أن يرى صورة موضوعة على كمبيوتر آخر في أمريكا بمجرد أن يكتب عنوانها.. كان هذا فتحًا عظيمًا لحضارتهم.. وأصبحت الشبكة تضم مئات الآلاف من الأجهزة حول العالم ويمكن لأي شخص الدخول عليها فور أن يوصل الكمبيوتر الخاص به بسلك التليفون.. سموا هذا الفتح العظيم "الإنترنت".. والتي هي في الواقع حفيدة "أربانِت". 

ساعتها عرفنا أن وقت الهزل قد انتهى.. ودخل وقت الجد.. بمجرد أن يوصل الشخص جهازه بالإنترنت ويظهر له أن جهازه الآن متصل.. يتحدد موقعه لدينا بمنتهى الدقة.. فنتدفق كالنهر إلى داخل جهازه ونبدأ في البحث عن وثائقه الشخصية وصوره وملفاته الهامة وننقلها إلينا بدون أن يشعر.. 
_280_

ظننا أننا بهذا قد وصلنا لكل ما نريد.. لكنك علمتنا أن هذا لاشيء.. فأصغينا إليك في انبهارٍ وأنت تشرح لنا ما ينبغي أن نفعل.. كم أنت عبقري يا سيدي.. كم أنت عبقري. 

علمتنا كيف نقنع الشخص الداخل إلى الإنترنت أن يثق في مواقع بعينها.. يودع فيها مزيدًا من أسراره.. في البداية عرَّفنا له البريد الإلكتروني.. "هوتميل" و"ياهوو".. وهو يدخل باسم مميز وكلمة سر.. فيهيؤ إليه أنه لا يطلع على بريده أحدٌ غيره.. ولا يدري أن رسائله كلها واردها وصادرها تخزَّن لدينا.. نحن نطلع على كل ما يَكتب ويُكتب له.. ولكنك علمتنا أن هذا لايزال غير كافٍ.. وأننا بحاجة للمزيد. 

عرفناه على برامج يستطيع بها أن يتحدث مع غيره في أي مكان في العالم.. برامج الرُسُل أو المسنجرز.. ال MSN والياهوو و ال ICQ وال mIRC .. برامج سموها برامج الشات.. أو الدردشة.. إن الواحد منهم كان يمضي جلَّ وقته على برامج الشات هذه.. يتحدث ويتحدث بكلام تافه لا قيمة له.. لكنك علمتنا كيف أن كل كلمة يقولها يجب أن تخزن.. لأن الكلمة تُستنبَط منها معلومة.. والمعلومة تعني زيادة في بنك المعلومات الذي لدينا عن هذا الشخص.. لقد أحدثَت هذه البرامج طفرة عظيمة في قاعدة معلوماتنا.. فالناس أصبحوا يتحدثون فيها أكثر مما يتحدثون بألسنتهم.. وكان هذا فيضًا لا ينتهي من المعلومات. 

وبدلًا من الشات الكتابي ابتكرنا الشات الصوتي والمرئي أيضًا.. وأدخلنا إلى الساحة برامج مثل ICU2 و Skype .. فزاد الإقبال على شراء المايكروفوانات والكاميرات بعد أن كانت ملقاة بإهمال في المتاجر.. وبالطبع فإن كل محادثاتهم الصوتية والمرئية مخزَّنة لدينا.. ولكن الأدهى أننا بشرائهم لتلك المايكروفونات والكاميرات زرعنا في بيت كل واحد منهم جهاز تنصت صوتي ومرئي.. ولا يدري أحدهم أن أحاديثه في غرفته مسجلة لدينا وصورته في غرفته مسجلة أيضًا.. فهذه الأجهزة مفتوحة على الدوام.. والأحمق يظن أنه هو الذي يفتحها ويغلقها متى يحلو له. 
_281_

ثم أظهرنا للعالم موقعين سمينا أحدهما كتاب الوجه Facebook .. وسمينا الآخر المغرد.. Twitter .. ومنهم عرفنا أصدقاءهم .. وأقاربهم.. ودرجة قُربهم من أصدقائهم وأقاربهم.. وفيهما رأينا صورهم.. وعرفنا الأشخاص والأشياء التي يحبونها والموسيقى والأفلام التي أحبوها والتوجهات السياسية التي يتبعونها.. والمناسبات التي حضروها أو سيحضرونها.. أمكننا أن نكتب تاريخهم وتاريخ مواقفهم ومشاعرهم.. نعم لقد كان الفيسبوك وتويتر فتحًا عظيمًا.. وقد حدثت بهما الطفرة الثانية في قاعدة معلوماتنا التي اتسعت الآن اتساعًا رهيبًا. 

ولما شعرنا أننا بحاجة لمزيد من الصور أنشأنا موقعًا خاصًا بها هو Instagram .. فأصبحوا يرفعون عليه صوره رفعًا محمومًا.. ثم شعرنا أننا بحاجة لرؤيتهم بالفيديو في مقاطع قصيرة فأنشأنا موقع Keek .. وفيه يصورون أنفسهم في مختلف حالاتهم المزاجية.. كان هذا رائعا يا سيدي.. أنت لا تدري ماذا أحدثنا بفضلك أيها العظيم. 

ثم حدثت الطفرة الثالثة.. الهواتف الذكية.. هواتف مثبتة فيها كاميرات وتحوي بداخلها كل مخترعاتنا من بريد وبرامج محادثة و فيسبوك وتويتر وإنستاجرام وكل شيء.. وهكذا صار من الأسهل على أحدهم أن يستخدم هذه المكتشفات الرائعة أينما ذهب .. وأدخلنا في هذه الهواتف برنامجًا للمحادثة أذكى من البرامج القديمة كلها.. برنامج صاروا له عبيدًا.. برنامج سميناه WhatsApp .. كما أن الكاميرا والمايكروفون الموجودة في تلك الهواتف تعمل كما كانت تعمل مثيلاتها القديمة في الكمبيوتر.. فنحن الآن زرعنا أجهزة تنصت في جيوبهم بدلًا من غرفهم. 
_282_

لقد أنشأنا بتوجيهاتك ياسيدي أكبر شبكة تجسس في التاريخ بأكمله.. الأجمل يا عظيمنا أن هذه الشبكة توصلنا لأسرار الأشخاص.. وتوصلنا لأسرار الشركات أيضًا.. فإن الشركات جميعها صغيرها وكبيرها.. الشركات المحدودة منها أو الحيتان.. كلها تعمل بنظام الإنترنت.. ورغم أن الشركات يكون لها نظام إنترنت مشفر خاص بها.. إلا أنه نظام نحن الذين وضعنا أسسه وأسس تشفيره.. وبالتالي فإن أسرار شركات العالم كله بين أيدينا هاهنا.. ألم أقل لك إنك عبقري ياسيدي؟ 

ليس فقط الشركات.. بل إن البنوك أيضًا تعمل بشبكة إنترنت خاصة بها مشفرة تشفيرًا عاليًا جدًّا.. للحفاظ على الأموال الهائلة التي فيها.. وكما علمتنا يا سيدي جعلنا البنوك لا تستغني إطلاقًا عن الإنترنت المشفر.. بل إنها تصاب بالشلل لو أن شيئًا ما حدث في هذا النظام.. ولأننا نحن أرباب هذا النظام. . فإن أموال العالم كله تحت أيدينا.. أموال العالم كله وشركاته تحت أيدينا ياسيدي.. ومعنى أنه تحت أيدينا أي أننا في لحظة واحدة يمكننا أن نشل حركة كل شيء.. لأننا نحن أرباب النظام بأكمله.. نحن يا مليكنا كما علمتنا قد أصبحنا نمتلك اقتصاد العالم بأكمله. 

أجهزة الدولة الحساسة كالمخابرات ووزارة الحربية والجيش والداخلية.. كل هذه الأجهزة تتناقل أسرارها عبر نظام إنترنت مطوَّر خصيصًا من أجلهم.. وهم يتباهون دائمًا أن نظامهم هذا غير قابل للاختراق مهما حدث.. بالطبع هو غير قابل للاختراق .. لأننا نحن من جعلناه غير قابل للاختراق.. نحن الذين صنعناه وسددنا ثغراته.. إن شبكة التجسس العظيمة التي أمرتنا بصنعها ياسيدي قد وصلت إلى التجسس على الدول.. عظيمها وحقيرها.. لقد ملكنا الأفراد والشركات والبنوك والجيوش والدول.. لقد علمتنا أن المعرفة قوة.. ونحن أصبحنا نعرف كل شيء. 
_283_

نحن الآن لدينا قاعدة بيانات كاملة تحوي سكان العالم أجمع.. فلو ضغطت فيها على اسم شخص تريده.. يخرج لك اسمه على الإنترنت حسب المعلومات التي استخرجناها من حساباته المختلفة.. واسمه الحقيقي الذي يستورده برنامجنا من قاعدة بيانات الأحوال المدنية في دولته.. وتخرج لك صوره الخاصة الموضوعه في جهازه الشخصي أو جواله.. وصوره العامة التي وضعها على الإنترنت.. وصو وثائقه الحكومية المستوردة من كافة أجهزة دولته الحكومية.. وفيديوهاته كلها الخاصة منها والعامة.. ومعلومات مفصلة عنه وعن أقاربه وعن تاريخه التعليمي والحكومي والجنائي ومعلومات عن الجهات التي عمل فيها وتفاصيل عمله فيها من دوامات ورواتب وغيابات حسبما نستورده من قاعدة بيانات تلك الجهات.. ومعلومات عن كل عملياته البنكية بالتفصيل والتواريخ والمحال التي اشترى منها ببطاقته البنكية وماذا اشترى وبكم اشترى.. ومعلومات عن أصدقائه وتوجهاته الفنية والسياسية والأدبية والجنسية وهذه نعرفها عن طريق البحث الذي يبحثه طيلة الوقت في محركات البحث المختلفة مثل جوجل.. تخرج لك كل محادثاته الكتابية والصوتية والمرئية التي أجراها على كمبيوتره أو جواله بتواريخها وتفاصيلها ويستورد برنامجنا كذلك كل محادثاته التليفونية الكاملة التي أجراها بالجوال على مدار حياته كلها.. تخرج لك المواقع الإلكترونية التي زارها في حياته باليوم والساعة والدقيقة... . وفي النهاية تخرج لك كل التسجيلات التي سجلها هاتفه الذكي أو كمبيوتره.. الصوتية المسجلة بالمايك أو المرئية المسجلة بالكاميرا. . باختصار ياسيدي.. ينفتح لك الشخص الذي أردته فتحا مبينا.. ولو كان رئيس الدولة نفسه. 

لم يعد هناك ما يمنع خروجك إلينا يا مليكنا وعظيمنا.. إن العالم كله أصبح جاهزًا الآن لاستقبالك.. خضع لك العالم كله.. خضع بأفراده وشركاته وأمواله وعسكره.. خضع بأسلحته ومخابراته وبنوكه وأقماره الصناعية.. خضع بأسراره وجنوده وبورصاته.. خضع بمؤسساته وأعماله ومعلوماته.. خضع لعظمتك العالم بأكمله يا سيدي.. خضع لعظمتك كله ياسيدي فاخرج إلينا فقد طال انتظارنا. 
_284_

سيدي العظيم.. مليكنا.. واسمح لي أن أناديك باسمك العظيم الذي انحنت لعظمته كل مؤسسات العالم.. اسمك الذي سيكون خلاصا لهذا العالم البائس.. فأنت المسيح وأنت المخلص.. اسمك الذي علمتنا أن نناديك به يا سيدي العظيم هو "أنتيخريستوس" .. اسم لامع ذو صِبغة لاتينية.. واللاتينية أصل اللغات كلها.. يدعوك أصحاب اللغات العبرية "هاماشياح".. وأصحاب اللغات الغربية يدعونك "أنتي كرايست".. أما أصحاب اللغات الشرقية فيطلقون عليك اسم المسيح.. المسيح الدجال. 

تمَّت 


***



_285_

Clothing

تصميم موقع أو تطبيق

لتعديل هذا القسم، انتقل إلى الصفحات وابحث عن صفحة المتجر، ثم انقر على تعديل.

$119

إختراق مواقع الأجهزة فايسبوك يوتيوب بريد إلكتروني

لتعديل هذا القسم، انتقل إلى الصفحات وابحث عن صفحة المتجر، ثم انقر على تعديل.

$42

"بابلو إسكوبار

العالم الرابع _173_ إنه الليل في هذا العالم السافل.. كنا نتحرك على "الكرولر" ببطء ينذر باقتراب شيء ما.. أدرت بيدي بكرة الراديو في لوحة التحكم والذي يشبه راديوهات التسعينات.. صوت الحشرجة المعروفة تتخللها أصوات أناس بعيدين يتحدثون .. وكلما أدرت البكرة أكثر اتضحت أصواتهم أكثر.. سمعنا موسيقى إخبارية مستعجلة جاء بعدها صوت رجل يقول بطريقة رتيبة : "هذا وقد أعلنت حكومة كولومبيا صباح هذا اليوم عن مكافأة قدرها عشرة ملايين دولار أمريكي لمن يمسك بذلك المجرم حيا أو ميتا.. المجرم الذي أحرق كولومبيا وقتل مئات الأبرياء بلا أي ذنب.. "بابلو إسكوبار".. تاجر المخدرات الأكثر ثراء والأشد قسوة والأعظم نجاحا في التاريخ بأكمله.. الرجل الذي يصَدر وحده نصف الكوكايين الموجود في العالم اليوم.. الرجل الـ.... توقفت "الكرولر" وانفتحت أبوابها وصمت الراديو فجأةً.. كنا ننظر إلى بوابة العالم الثاني.. الأمر لا يبشر بخير.. هناك أدخنة كثيرة تتصاعد في الجو وأصوات سيارات شرطة غاضبة.. وطائرات هليكوبتر تمشط الأجواء بقلق.. انفتحت البوابة.. ودخلت أنا وأنت وسط كل هذا.. هناك الكثير من الهرج والمرج بالداخل.. نحن في كولومبيا في بداية التسعينات.. ذلك المجرم الذي سمعت اسمه في الراديو منذ قليل.. بابلو إسكوبار.. إن العالم كله يبحث عن هذا الرجل اليوم.. وهذه ليست عبارة أدبية.. بل إنني أعنيها حرفيا.. دعني أجعل أجواء هذا العالم تشرح لك بنفسها. إن المشهد الذي واجهنا أول ما دخلنا كان مشهد مزدحما جدا.. للوهلة الأولى كانت هناك سيارات عسكرية كثيرة ورجال عسكريون كثر مختلفة أزياؤهم.. كلهم مشغولون .. وطائرات تحوم حولنا وحولهم.. ورجال تحقيقات ينحنون على الأرض كل حين يجمعون الأدلة.. هناك رجال عصابات مجرمون تمتلئ أجسادهم بالأوشام يمشون في مجموعات على الناحية الأخرى من الشارع.. لا أدري كيف يجتمع هؤلاء وهؤلاء في مكان واحد.. أولئك شرطة كما يبدو من هيئاتهم وهؤلاء مجرمون كما يبدو من أوشامهم.. والأهالي المذعورون ينظرون من شبابيكهم من وراء ستائرهم إلى هذا المهرجان.. الكل قد اجتمع اليوم في شوارع كولومبيا لأجل هدف واحد.. البحث عن رجل واحد وتصفيته.. "بابلو إسكوبار". _174_ دخلنا وسطهم أنا وأنت.. نحن أيضا هنا للبحث عن "بابلو إسكوبار" بالمناسبة.. لماذا نبحث عنه؟ لأننا في عالم المخدرات.. ولا تذكر المخدرات دون أن يذكر "بابلو".. الماستر كما يسميه أصحابه. تقدم معي في هذا الزحام.. تلك القوة من الرجال الضخام الأشداء بملابسهم العسكرية وخوذاتهم الواقية وأسلحتهم الكبيرة هناك هم دلتا فورس Delta Force .. أقوى فرقة عسكرية في الجيش الأمريكي.. وهي فرقة مدربة فقط للإمساك بأباطرة الإرهاب في نظر أمريكا.. مثل "بن لادن".. هذه الفرقة تمشط كولومبيا اليوم فقط للإمساك ببابلو إسكوبار.. والرجال ذوو المعاطف الزرقاء الذين ينحنون على الأرض كل حين ويتحدثون في خطورة لن أحتاج إلى تعريفك بهم لأن اسمهم مكتوب على ظهور معاطفهم.. F.B.I .. مكتب التحقيقات الفيدرالي.. وهم هنا لجمع الأدلة ومكافحة الإرهاب والقبض على بابلو أيضا. الطائرات الهليكوبتر المزعجة فوق رؤوسنا بداخلها رجال يرتدون ملابس عسكرية مموهة ويحيطون أنفسهم بكميات ضخمة من الأجهزة والأسلاك.. هذه فرقة أمريكية عسكرية متخصصة بالتعقب.. تدعى ال Centra Spike .. وهم يبحثون عن "بابلو" من الجو.. عبر تتبع الإشارات الملتقطة من الهواتف التي يمكن أن يستخدمها.. ويرسمون عبر هذه الإشارات خريطة تقريبية للموقع الذي ربما يكون فيه.. وخريطتهم تتطور تدريجا وتضيق مع كل تعقب ناجح. بجانب هؤلاء وهؤلاء هناك رجال يرتدون ملابس عسكرية سوداء خطرة المنظر.. فرقة Search Bloc العسكرية الكولومبية.. فقط أنزه وأكفأ وأقوى رجال الشرطة في كولومبيا هم من ينضمون لهذه الفرقة.. يجاورهم رجال بمعاطف زرقاء يشعرون بالخطورة وينحنون على الأرض كل حين أيضا مكتوب على ظهور معاطفهم كلمة DAS .. مكتب التحقيقات العسكري الكولومبي.. وهو مثل الـ FBI ولكن في كولومبيا.. هذا تعاون بين الحكومة الأمريكية بأخطر أجهزتها والحكومة الكولومبية بأخطر أجهزتها إذا.. هل عرفت درجة خطورة الرجل الذي نبحث عنه؟ على الجانب الآخر من الشارع كان هناك رجال ضخام.. يمسكون بأسواط وسكاكين.. تملأ أجسادهم الأوشام الإجرامية.. هؤلاء عصابة Los Pepes المنافسة لبابلو.. وهي عصابة دموية مجنونة هدفها الوصول إلى رأس "بابلو" عبر قتل وسلخ وتعذيب أي شخص كانت له علاقة به من قريب أو من بعيد.. ويظهر ذلك _175_ من الدماء التي تقطر من أسواطهم وسكاكينهم.. بابلو بالنسبة لهم حوت أكل كل شيء في السوق .. وتصفيته تخلي لهم الجو. ما جعل الأمر في غاية الجنون هو أن كل هؤلاء يمشطون كولومبيا منذ أكثر من سنة كاملة للبحث عن رجل واحد دون جدوى .. كان الرجل مثل الشبح.. اشتهر أمره عالميا وأصبحت وكالات الأنباء في جميع أنحاء العالم تتحدث عنه.. مما أغرى القتلة المحترفين وصائدي الجوائز من جميع أنحاء العالم بالسفر إلى كولومبيا للإطاحة برأسه الثمين.. لن تستغرب لو وجدت قتلة روسيين أو يابانيين يمشون حولنا.. بعض هؤلاء القتلة المحترفين جاء من أجل العشرة ملايين دولار.. وبعضهم جاء فقط لإطفاء شعلة التحدي التي أشعلها الأمر في روحه القناصة.. فكلما ازداد الهدف صعوبة ازدادت المتعة.. وازداد المجد.. كان هذا باختصار تفسير كل ذلك الزحام الذي رأيناه في المشهد الأول. اقتربنا من أحد الحوائط.. صورة "بابلو إسكوبار" مع كلام كثير عن أنه المطلوب الأمني رقم واحد في العالم اليوم وعن الجائزة المعروضة على رأسه.. نظرنا أنا وأنت إلى وجهه بفضول حقيقي لنرى الرجل الذي قلب العالم كله هكذا.. بدا وكأن عيوننا قد اندهشت قليلًا.. كان رجل وسيما بملامح هادئة ونظرة ساخرة مميزة. اقتربت الأجواء بنا من الصورة وتموهت كل الموجودات حولها حتى لم نعد نرى أي شيء تقريبا عدا الصورة.. ثم نظر لنا "بابلو" من داخل الصورة وابتسم ابتسامة بزاوية فمه تحرك معها شاربه المميز.. ودخلت أجواؤنا في أجوائه ببطء.. كان يبدو وكأننا قفزنا إلى داخل الصورة. *** كان "بابلو" واقفا في غرفة في الطابق الثاني لأحد البيوت.. مبتسما تلك الابتسامة التي ابتسمها لنا في الصورة.. كان بكامل أناقته وبجانبه أخوه "روبيرتو" يحدثه في أمر ما.. كان "روبيرتو" يقول له: تعرف أنني أحبك "بابلو".. ما تريد أن تقوم به هو شيء في غاية الجنون .. أتفهم أنك تريد الاحتفال بعيد ميلادك اليوم.. لا مشكلة لدي.. أما أن تأمرني أن أجري اتصالاتي لأحضر لك فرقة موسيقية كاملة لتعزف لك هنا في هذا المكان المطلق السرية فهي خطوة حمقاء.. لأن أول ما سيفعلونه بعد أن يخرجوا من هنا هو أن يبلغوا عنك الشرطة.. إن العالم كله يبحث عنك الآن. _176_ قال له "بابلو" بهدوء ولا مبالاة: إن "بابلو إسكوبار" سعيد في هذا اليوم.. وسيحتفل رغما عن أنوف الجميع. قال أخوه: لا تحلم أصلا أن هناك فرقة موسيقية ستوافق على أن تأتي إلى هنا أنت لا تدري ما الذي... قطع حديثه فجأة صوت عزف احترافي يأتي من الطابق السفلي... اتسعت ابتسامة "بابلو" واتسعت عينا "روبيرتو" وهو يقول : ما هذا؟! ا إذًا فقد أتيت بهم بالفعل.. فليكن يا "بابلو".. فليكن.. لقد سئمت من جنونك وعدم تقديرك لخطورة موقفك دائما.. أنا سأحزم حقائبي وأرحل من هنا. لم يعلق "بابلو" وأخذ يدندن باللحن الذي تعزفه الفرقة من الأسفل وخرج من الغرفة نازلا إليهم محييا بسعادة بالغة.. أهذا هو الرجل الذي يبحث عنه العالم اليوم؟ توقعته أكثر إجراما مما يبدو.. بدأ "روبيرتو" يحزم أغراضه بالفعل في حقيبة صغيرة وهو يسب عدة سبات كولومبية.. ثم أمسك بالحقيبة وشدها إليه بقسوة وفتح الباب ثم نزل على السلم.. كان "بابلو" بالأسفل جالسا وسط الفرقة مستمتعا بعزفهم يغني معهم ويدندن. بدت ملامح "روبيرتو" متجهمة وهو ينزل بغضب ويفكر في الخطوة التالية التي سيفعلها لتأمين أخيه المتهور ولم تأت في عقله فكرة أفضل من قتل جميع أعضاء الفرقة بعد أن ينتهوا.. لكن هؤلاء الأغبياء كيف وافقوا أصلًا وأتوا إلى هنا؟ قطعت أفكاره نظرة واحدة منه إلى الفرقة اتسعت عيناه بعدها في دهشة حقيقية.. لقد كان ما يراه أمامه هو آخر شيء يتوقعه في هذا العالم.. تلك الفرقة التي تعزف حول "بابلو".. كانت فرقة من الرجال الذين يرتدون النظارات السود الكبيرة.. كانت فرقة من العميان. لم يتمالك "روبيرتو" نفسه.. فانفجر في الضحك.. ووضع حقيبته على الأرض في سعادة ناظرا إلى بابلو نظرة لوم مرحة وانضم إلى الفرقة بجانب أخيه وأخذ يدندن معهم هو الآخر.. حقا إن فرقة من العميان لن يعرفوا إلى أين هم ذاهبون وأمام من يعزفون .. أخذ الجميع يغني أغنية " Happy Birthday to you " لبابلو بأصوات سعيدة ضاحكة.. وبعد أن انتهوا قام "بابلو" من مجلسه وقال: أيها السادة شكرًا لكم جزيلًا.. سعدت بوجودكم.. وإني أود أن أخبركم أمرا لا _177_ أدري كيف ستتقبلونه.. أنتم كنتم تعزفون اليوم في عيد ميلاد السيد "بابلو إسكوبار".. الذي هو أنا. وجم الجميع وارتعشت أطرافهم.. لكن "بابلو" تحدث معهم بصدق وطمأنهم تماما وأعطى كل واحد منهم في يده عشرين ألف دولار.. وغادروا المكان فرحين كلهم.. لم يكن منهم أي خوف.. كانوا عميانًا. بعد رحيلهم جلس "بابلو" على الأريكة متنهدا وأمسك بجهاز التحكم وشغل التلفزيون .. كان التلفزيون يعرض مشهدا من فيلم بالأبيض والأسود.. كان في المشهد رجل يرتدي معطفا أسودَ طويل وطاقية سوداء وملامحه غير واضحة من هذه الزاوية.. فجأة تموهت الصورة حول التلفزيون وأصبح الرجل ذو الطاقية وحده واضحا.. كان يمشي بخفة في إحدى المزارع.. بدا وكأن كل شيء حولنا فجأة يتحول إلى الأبيض والأسود ثم أخذتنا الأجواء أخذا إلى ذلك الرجل داخل التلفزيون. *** بدا وكأننا انتقلنا إلى داخل فيلم قديم بكل تلك الأجواء البيضاء والسوداء حولنا.. لكن هذا لم يكن فيلما.. بل لقد انتقلنا إلى الأربعينات.. ليست أربعينات القرن العشرين.. بل أربعينات القرن التاسع عشر.. أي كما نقولها بالأرقام 1840 .. كان ذلك الرجل ذو الطاقية والمعطف الطويل واقفا في أحد الحقول يشاهد من بعيد بعض المزارعين الذين يعملون بكد. إنهم سكان أمريكا الجنوبية.. وهم يعملون في مزارعهم وحقولهم ويمضغون شيئا ما تحت أسنانهم كلهم.. شيء يجعلهم يعملون ساعات طويلة دون كلل.. ذلك الشيء الذي يمضغونه.. إنها أوراق نبات الكوكا.. مصدر الكوكايين.. أو "هبة الآلهة" كما يسميها الأهالي هنا.. عندما تمضغ هذه الأوراق يتسرب الكوكايين منها إلى داخل جسدك ويعطيك قوة تجعلك قادرا على العمل ثلاثة أضعاف ما تقدر عليه عادة.. هو يشعل جسدك إشعالا ويحمس كل عضلتك للعمل.. هذه حقيقة علمية لا مبالغة فيها. و فجأة أظلم العالم حول الرجل ذي الطاقية وبدأت النيران تأكل الأجواء.. الاحتلال الإسباني والاكتشاف الأول لأمريكا الجنوبية.. كان احتلالا قاسيا جدا.. هناك رجل ما بملابس عسكرية يبدو متعجبا من ذلك الشيء الذي يمضغه الأهالي طيلة الوقت.. أرى واحدا من الأهالي يعطيه ورقة من أوراق الكوكا ليريه إياها.. الإسباني يمضغ هبة الآلهة.. تمر دقائق.. يتسرب الكوكايين إلى داخل _178_ جسده.. انظر إليه.. إنه يشعر بالسعادة ويخبط على كتف من أعطاه إياها وهو يضحك. لكن الإسبان خافوا من هذا الشيء الذي يمضغ.. هذا الشيء يعطي شجاعة وقوة حقيقية لمن يمضغه.. هذا الشيء يجعل الأهالي أكثر صعوبة في السيطرة عليهم.. لأجل هذا منع الإسبان مضغ هذا الشيء تماما وسموه بالنص أنه "رجس من عمل الشيطان" an evil agent of the devil .. لكن في مقابل هذا المنع لم يستطيع السكان العمل في المزارع أو في مناجم الذهب بكفاءة.. إن كفاءتهم انخفضت لأقل من النصف.. فاضطر الإسبان للسماح به مرة أخرى .. وبدأت الكنيسة الكاثوليكية الإسبانية تزرعه أيضا.. ثم بدأ تصديره من أمريكا الجنوبية إلى أوروبا. تموهت الأجواء حول الرجل ذي الطاقية مرة أخرى والذي لا أدري من هو بالضبط.. ثم زال التموه من حوله فرأيناه يمشي في أحد شوارع أوروبا.. لقد انتقل الكوكايين إلى هناك.. نرى إعلانا كبيرا على جدران أحد المنازل .. نوع جديد من الخمر نزل إلى السوق .. Vin Mariani .. مكتوب في الإعلان أنه ليس خمرا عاديا.. بل هو مزيج من الخمر والكوكايين.. وأنت حين تمزج هذين الشيئين يخرج لك مركب جديد.. مركب يؤدي إلى نشوة أكثر من الكوكايين العادي وإسكار أقل من الخمر العادي.. وقوة أعظم.. وثقة بالنفس لا حدود لها.. مشروب أصبح يستخدمه الجميع بلا استثناء في ستينات القرن التاسع عشر.. الـ 1860 .. حتى المفكرين و الكتاب اعجبوا به جدا .. آرثر كونان دويل.. جول فيرن .. ألكساندر داماس.. سيجموند فرويد.. كلهم كانوا يشربونه.. كان شيئا مثل السحر حقا. فجأة انقلبت كل أجوائنا إلى أجواء مشوشة تماما.. نظرنا حولنا.. هناك شيء غير طبيعي يحدث هنا.. فجأة تلونت الدنيا وتم جلبنا مرة أخرى إلى حيث يجلس "بابلو إسكوبار".. إن الرجل كان يغير قناة التلفزيون عبر الريموت... يبدو أن هذا هو ما أنهى وجودنا عند ذلك الرجل ذي الطاقية.. حقا لن نفهم هذا العالم أبدا.. نظرنا تلقائيا إلى التلفزيون لنرى القناة التي حول "بابلو" إليها. كانت إحدى القنوات الإخبارية.. كانوا يعرضون كلمة الرئيس الأمريكي "ريجان" في الحملة الشهيرة التي أطلقها منذ عدة أسابيع فقط.. حملة الحرب على المخدرات War On Drugs .. تلك الحرب التي أعلنتها أمريكا فجأة على كل الدول التي تصدر لها المخدرات وعلى رأسهم كولومبيا.. فجأة طلبت أمريكا رسميا من حكومة كولومبيا أن تسلم لها زعماء تجارة المخدرات الكولومبيين لتتم _179_ محاكمتهم وسجنهم في أمريكا.. وذلك حتى يوقفوا التدفق الرهيب من المخدرات الذي يدخل إلى الولايات المتحدة كل عام.. وبالطبع كان أكبر تاجر مخدرات في كولومبيا والعالم كله في ذلك الوقت هو "بابلو إسكوبار".. ولذلك كان هو المطلوب رقم واحد في هذه الحملة. ظل الرئيس "ريجان" يتحدث و"بابلو" ينظر له بغل حقيقي.. كان كل شيء يسير على ما يرام لسنوات وسنوات حتى قرر هذا الرئيس الأمريكي المتحذلق أن يقيم الحرب على الجميع هكذا.. ورغم أن "بابلو" كان قد اشترى ذمم أكابر الرجال في كولومبيا فإن أحدا منهم لم يطلعه على سر هذا التحول المفاجئ لأمريكا.. ما الذي تغير؟ لماذا هذه الحرب الشعواء المفاجِئة.. لا أحد كان يعرف الحقيقة وقتها.. بدأت الأجواء تتموه حول التلفزيون وتبقى صورة "ريجان" وحدها هي الواضحة وهو يتكلم.. واقتربت الأجواء من "ريجان".. والتفت "ريجان" لينظر إلينا.. اقتربنا منه ببطء حتى دخلنا إليه في مكانه. *** كان "ريجان" جالسًا في سيارة فاخرة جدا.. غرفة معيشة كاملة بأرائكها وستائرها بداخل سيارة.. يجلس بمواجهته نائبه "بوش" الأب.. وبجوارهم رجل أنيق وسيم يدعى "أوليفر نورث".. كان التاريخ في لوحة السيارة الفاخرة يشير إلى قبل سنة كاملة من إعلان "ريجان" للحرب على المخدرات.. كان "بوش" الأب يقول ل"نورث": هل تدري يا "نورث" أنك ستكون كبش فداء رائعا جدا في حال فشل هذه العملية التي اقترحتها علينا؟ قال له "نورث" بهدوء: وهل ظننت أنني أحمق حتى أقترح على أمريكا عملية كهذه لو أن فيها نسبة مخاطرة واحد في المائة؟ توقفت السيارة لحظات ونظرنا من نافذتها للخارج.. كانت هناك بوابة تنفتح لنا بهدوء لتدخل فيها سيارتنا الفاخرة.. وفور أن فتحت تلك البوابة ، رأينا منظرا عجيبا جميلا أبهر عيوننا كلنا.. حقل أفيون واسع على مد بصرنا.. زهور الأفيون كانت طويلة جدا وبيضاء ومتجاورة بشكل مبهر.. والأجمل أننا كنا نمشي بالسيارة وسط هذا الحقل متجهين إلى قصر عظيم أبيض اللون كان منظره بهيًا جدًا _180_ وسط هذا الكم من الزهور البيضاء الطويلة.. لاحظت أن الرئيس "ريجان" و"بوش" ينظران بانبهار من الشباك بينما بدا "نورث" هادئا ينظر إلى انبهارهما. إننا الآن نحن ورئيس الولايات المتحدة ونائبه ذاهبون لمقابلة زعيمة المخدرات الفاتنة "سونيا أتالا" في قصرها.. يقولون عنها أنها كانت أغنى وأقوى امرأة في العالم في الثمانينات.. يقولون عنها أنها هي التي كانت تحكم بوليفيا من وراء الستار.. يسمونها ملكة الكوكايين.. فكما أن "بابلو إسكوبار" هو ملك الكوكايين المسؤول عن نصف كوكايين العالم، فسونيا أتالا هي المسؤولة عن النصف الآخر.. كانت ضابطة في الجيش البوليفي ومعها وسام يشهد بأنها أفضل قناصة رأتها أوساط الجيش منذ قرون.. لكن "سونيا أتالا" كان لها لقب آخر تعرف به في أوساط العصابات.. لقب غريب نوعا ما.. يسمونها "ملكة الثلج".. سموها به لأنها تحب اللون الأبيض حبا جما.. حتى إنهم قالوا أنها احترفت بيع الكوكايين فقط لأنه أبيض. قبل أن نكمل وندخل هذا القصر الأبيض دعني أشرح لك سريعا ما نعيشه الآن حتى تزول علامة الاستفهام التي تكونت فوق رأسك وأنت تشاهد رئيس الولايات المتحدة يذهب لمقابلة زعيمة من زعماء المخدرات.. وحتى لا تتوه أثناء متابعتك للأحداث القادمة.. ركز قليلًا لأن ما سأقوله سيكون مُركزًا وصادمًا نوعًا ما.. سأعرفك السر وراء إعلان أمريكا الحرب على المخدرات هكذا فجأة.. السر الذي لم يكن يعلمه "بابلو إسكوبار" نفسه على عظم إمبراطوريته. الحكاية هي أن هناك حكومات شيوعية بدأت تبرز في الدول القريبة من أمريكا.. دول مثل بوليفيا ونيكاراجوا والسلفادور وجواتيمالا وكوبا.. هذه الحكومات الشيوعية كلها كانت خطرا كبيرا على أمريكا.. لأنها ببساطة شيوعية.. وشيوعية تعني أنها مدعومة مباشرة من روسيا. ولأن أمريكا تعشق أسلوب الطفيليات في هدم كل ما يحتمل أن يكون كيانا مستقرا يهدد وجودها.. فقد تولت أمريكا إنبات تنظيمات مضادة للشيوعية في كل دولة من تلك الدول الشيوعية.. كان الهدف الأساسي هو أن تبقى الصراعات دائرة كما هي في تلك الدول الشيوعية.. حتى لا تستقر تلك الدول بعد حين وتكون خطرا حقيقيا على أمريكا.. أهم تلك التنظيمات التي أنبتتها أمريكا كان التنظيم المحارب للحكومة الشيوعية في دولة نيكاراجوا.. ذلك التنظيم الثوري المسلح الذي أثار الكثير من الجدل و الذي أطلق عليه اسم الكونتراContras. _181_ روسيا لم تسكت على هذا التنظيم.. وتحركت بسرعة لأجل إجهاضه، فزودت حكومة نيكاراجوا الشيوعية بمبلغ خمسة بلايين دولار كبداية لمحاربة الكونترا.. ووعدتهم بالمزيد كل شهر حتى يتم القضاء على التنظيم تماما. كان على "ريجان" و"بوش" أن يجدا طريقة للرد على هذه الخطوة ودعم تنظيم الكونترا بأموال كثيرة جدا في وقت قصير جدا.. ولأن أمريكا كانت مشغولة في مئات الأشياء المكلفة الأخرى .. لم يكن أمام "ريجان" و"بوش" إلا أن يقبلا الاقتراح المجنون الذي عرضه عليهما الكولونيل الوسيم "نورث".. عرض للحصول على بلايين الدولارات في وقت قصير للغاية. اقتراح "نورث" كان كالتالي.. وركز معي في كل كلمة.. وكل اسم.. أن تشتري المخابرات الأمريكية خمسمائة طن من الكوكايين الخام من عصابة "روبيرتو سواريز" الشهيرة في بوليفيا.. تنقل المخابرات هذا الكوكايين الخام إلى معامل خاصة في بوليفيا تملكها زعيمة المخدرات الفاتنة "سونيا أتالا" لتحويله إلى كوكايين بودرة جاهز للاستخدام.. تنقل المخابرات الأمريكية بودرة الكوكايين الجاهزة هذه إلى أمريكا ليبيعونها هناك لشبكة مخدرات كبيرة في أمريكا هي شبكة الإخوة "أوشوا".. عملية الشراء ثم التجهيز في المعامل البوليفية ثم النقل لأمريكا ثم البيع ستحتاج إلى حوالي سنة لأن الكمية ضخمة جدا.. وبالتالي سيتم نقلها على دفعات أسبوعية بإشراف وتأمين وتعتيم كامل من المخابرات الأمريكية.. هذه الدفعات عند بيعها ستربح منها أمريكا بلايين شهرية لا حصر لها.. هذه البلايين ستكون من نصيب تنظيم الكونترا.. لدعمهم بالسلاح والتجهيزات. باختصار، كان اقتراح "نورث" هو أن تتحول المخابرات الأمريكية CIA لأكبر عصابة مخدرات في التاريخ تشتري خمسمائة طن كوكايين من بوليفيا وتدخله إلى أمريكا وتبيعه هناك وتكسب نقودا تدعم بها الكونترا.. المشكلة أنه كان على "بوش" و"ريجان" أن يفعل هذا كله في الخفاء.. لأن الكونجرس لن يوافق على شيء كهذا أبدا. *** نعود إلى حقل الزهور البيضاء والقصر الأبيض.. نزلنا من السيارة ومشينا ناحية القصر.. الباب نفسه لونه أبيض.. ذوق هذه السيدة راق جدا بالمناسبة.. _182_ كل شيء هنا فاخر جدًا.. وأبيض جدًا.. لوهلة ظننا أننا في الجنة.. دخلنا للقصر المهيب.. كما توقعت، كان اللون الأبيض طاغيًا على الأثاث والستائر وتماثيل المرمر والرخام بالداخل.. وفي خضم كل هذا البياض خرجت لنا "سونيا". أول شيء سيلفت نظرك في "سونيا " عندما تراها لأول وهلة هو ذلك الشعور الذي يأتيك بأنها فتاة في العشرينات.. اللافت في الموضوع أن "سونيا" كانت أغنى وأقوى امرأة على وجه الأرض وقتها أيام الثمانينات.. ستقول لنفسك في أول وهلة، كيف وصلت هذه الصغيرة البريئة لكل هذا؟! ولكن حين تتحدث إليك "سونيا " سرعان ما سيزول شعورك الأول بالدهشة ويحل محله شعور بعدم الاطمئنان.. إن هذه الفتاة في صوتها بحة تشعر فيها بقسوة وبرودة لا حد لهما.. لست أميل إلى المبالغة لكن هذا ما شعرت به للوهلة الأولى.. كما أن ملابسها الجلدية البيضاء الفاخرة جدًا وكل الأبيض الذي حولها يعمق شعورك بالبرودة. قالت "سونيا" فجأة للرئيس "ريجان" بدون مقدمات أو سلام وبصوت هو للأفعى أقرب: يراودني سؤال كنت أود أن أسأله لأي رئيس دولة أقابله يوما، هل تسمح لي سيدي الرئيس؟ قال "ريجان" باهتمام: بالطبع. قالت "سونيا" وهي تضيق عينيها الرماديتين الباردتين: هل شعوبكم حمقى لهذه الدرجة؟ نظر لها "ريجان" بتساؤل مندهش فأكملت قائلة: هل حقا تظن الشعوب في هذا العالم أن حكوماتهم تحارب المخدرات؟ هل يظنون حقا أن أي حكومة في هذا العالم تحارب المخدرات فعليا؟ المخدرات هي ثاني أكبر تجارة في العالم، دخل اقتصادي رهيب للدولة.. هل حقا يظنون أن الحكومة تحاربها؟ ألم يفطنوا بعد أن الحكومات هي التي تمرر المخدرات إليها بقدر معلوم وتكسب منها بقدر معلوم؟! قال "ريجان" بابتسامة: _183_ من قال لك هذا أيتها الجميلة؟ الحكومات تحارب المخدرات طبعا.. لكن ليس كل المخدرات.. إنما نحارب المخدرات التي يتناقلها التجار الصغار.. حتى لا يزعجوا التجار الكبار.. تجار المخدرات الكبار يكسبون بلايين لا حصر لها.. وما يكسبونه يغسلونه بطرق كثيرة حتى يدخلوه في البنوك بصورة رسمية.. خمسمائة بليون دولار تدخل لبنوكنا كل سنة من تجارة المخدرات.. كثير من البنوك تقوم قواعدها على أموال تجار المخدرات المغسولة هذه.. لأنهم يوفرون سيولة رهيبة مستمرة غير منقطعة للبنك.. وطالما البنوك تستفيد فاقتصاد الدولة يستفيد.. نحن دائما نقول أننا نبذل جهدنا لمحاربة تجار المخدرات الكبار.. لكن تجديننا في نفس الوقت حين نجد معهم بلايين يريدون غسلها وإدخالها للبنوك.. فنحن نسهل أمورهم.. هذه بلايين.. فائدة للدولة. بدا بريق عيني "سونيا" معجبا بكلام الرئيس وقالت: ظننتك ستتحدث بالهراء المعتاد وتقول أن الحكومة تبذل ما بوسعها لمحاربة المخدرات لكن التجار يطورون من أساليبهم.. فلا تنقطع المخدرات من أي دولة أبدا. قال "ريجان" بنبرة حكيمة: الحكاية هي أن شعوبنا لا يدرون شيئا وليست لديهم الرفاهية الذهنية أصلا للتفكير في مثل هذه الأمور.. كل إنسان هنا منشغل في كيفية البقاء حيا في هذه الغابة التي صنعها لهم النظام.. يولد الواحد منهم ليجري في الغابة منذ صغره.. يجري لئلا يرسب في المدرسة بكل ضغطها وتوترها.. يجري لئلا يرسب في الجامعة بكل تعقيداتها وأساتذتها.. يجري ليحصل على وظيفة براتب جيد.. يجري ليتزوج.. يجري ليربي أطفاله.. ثم يجري ليتعالج حتى يطيل فترة بقائه بضع سنين في هذه الدنيا.. ثم يجري ليموت.. صدقيني ليست لديه الرفاهية ليفكر في مثل هذه الأمور. قالت "سونيا" وهي تشير إلى عقلها: تورط الدول بديهي باستخدام هذا.. هل يعقل أن دولة بكامل أجهزتها العسكرية والرقابية والبنكية، تمر من تحت أنفها بلايين الدولارات هكذا كل شهر من شهور السنة في تجارة المخدرات؟ لا أعرف كيف يمكن لشخص أن يصدق هذا؟! تدخل "نورث" قائلًا: _184_ إن سيدي الرئيس يعرف تماما أنك يا "سونيا" أكبر تاجرة مخدرات في العالم تقريبا وبغض النظر عن البلايين التي تستفيد منها البنوك.. فأنت لديك شبكة كاملة من المرتشين في كافة مراكز الحكومة.. مدراء شرطة يأخذون قسطهم الشهري ليغضوا الطرف.. مدراء مطارات يأخذون قسطهم الشهري ليغضوا الطرف.. قضاة يأخذون قسطهم الشهري ليغضوا الطرف.. أنت تشترين "أطرف" الحكومة كلها.. البنوك مستفيدة منك .. وأشخاص مهمون في الحكومة أيضا مستفيدون منك .. كيف يعقل أن يحاربوك ؟ وبالمناسبة نحن هنا لنتباحث بشأن الأطنان التي سنوردها إلى معاملك والتي.. بدا وكأن أنوار المكان قد خفتت فجأة و خفتت الأصوات فجأة.. نظرنا إلى النافذة.. أصبح يتعاقب فيها الليل والنهار بسرعة.. عدنا لننظر إلى "سونيا" والآخرين لنجد أوضاع وقوفهم قد تغيرت.. حيث أصبحت "سونيا" جالسة على الأريكة تنظر إلى بعض الأوراق واضعة ساقا على ساق وحولها الثلاثة رجال يتحدثون معها.. تغيرت ملابسهم جميعا عما كانت.. لقد تقدم الزمن بنا سنتين كاملتين.. هذا المشهد هو ما حدث في هذه الغرفة مع نفس الشخصيات بعد سنتين من المشهد الأول. كانت "سونيا" تقول : والآن قد بلغ الكوكايين الذي تاجرتم فيه حوالي ألف طن.. كنتم تتحدثون عن خمسمائة في البداية.. تحياتي سيادة الرئيس لقد دعمت تنظيم الكونترا.. لكنك أصبحت أكبر تاجر مخدرات في العالم.. أنت أكبر مني الآن. ابتسم الرئيس "ريجان" ابتسامة غامضة وصمت بينما قال "بوش": ليست المشكلة في الألف طن فقط.. المشكلة أننا في سبيل نقل هذه الكمية كلها، أصبح لنا طريق آمن معتاد يوصل الألف طن خاصتنا من بوليفيا إلى مقر عصابة الإخوة "أوشوا" في أمريكا.. تكمن المشكلة في أن الإخوة "أوشوا" أصبحوا يستخدمون هذا الطريق الآمن في نقل الكوكايين الخاص بهم هم أيضا إلى أمريكا.. فتم إغراق بلدنا بما هو أكثر بكثير من ألف طن من الكوكايين.. وبالتالي رخص سعره في أمريكا وأصبح متاحا للكل.. وتحول الأمر إلى وباء اجتاح أمريكا كلها في أقل من سنة.. وباء الكوكايين. ضحكت "سونيا" كالأفعى وقالت: إن أكثر ما يضحكني في الموضوع هو ظهورك في التلفزيون سيدي الرئيس بعد _185_ أن أتخمت أمريكا كلها بالكوكايين.. ثم أصبحت تظهر وتتحدث في التليفزيون بحكمة عن المخدرات وكيف أنها خطر قومي على الولايات المتحدة.. وأعلنت عن حملة War On Drugs التي صاحبتها حملة إعلانية ضخمة.. إعلانات يتحدث فيها رجال الشوارع وينظرون للكاميرا وينصحون الأمة بكلمة بليغة.. "فقط قل لا" Just say no .. ولا يدري أحد أنك أنت السبب في هذا الوباء.. ألم أقل لك يا سيدي أن شعوبكم حمقى. قال الرئيس "ريجان": هذه الحملة وهذه الكلمات لم تكن تكفي.. كان لا بد أن نغطي على فعلتنا هذه بشكل عملي.. لأجل هذا أعلنّا الحرب على تجار المخدرات الكولومبيين وكأنهم هم سبب هذا الوباء.. جعلناهم كبش الفداء.. وأرسلنا أكفأ قواتنا للقبض عليهم في بلدهم. *** خفتت الأضواء والأصوات مرة أخرى .. هناك تغير آخر في الزمن يحدث الآن.. انتقلنا بضعة شهور إلى الأمام.. نظرنا إلى "سونيا" والرئيس وصاحبيه.. الكل متوتر جدا وهم ينظرون إلى شاشة التلفاز التي تعرض أخبارا عاجلة من كولومبيا.. كان هناك رجل واحد جن جنونه من إعلان هذه الحرب على المخدرات.. وجن جنونه أكثر لصدور القانون الأمريكي بتسليم تجار المخدرات الكولومبيين إلى أمريكا للمحاكمة.. رجل واحد كان يعرف أن كل هذه الحرب الدائرة في كولومبيا هي لأجل الإمساك به هو.. لأنه أكبر تاجر مخدرات في العالم.. رجل واحد هو "بابلو إسكوبار". لكن ما لم يكن يعرفه هو أن الإمساك به وقتله سيكون تعويضا رهيبا تقدمه أمريكا لشعبها بعد أن أغرقته في الكوكايين.. لكن يبدو أن ذلك الرجل ليس سهل.. ها هو ذا يفجر تفجيرا جديدا إرهابيا في كولومبيا الآن.. لم يكن تفجيرا عاديا هذه المرة.. لقد تخطى كل الحدود.. لقد فجر "بابلو إسكوبار" قبل دقائق وزارة العدل الكولومبية كلها.. والتي يطلق عليها قصر العدالة Palace Of Justice .. فجرها بكل القضاة الذين كانوا بداخلها. قال الرئيس "ريجان" بغل واضح: لست أفهم كيف يفعل هذا بنا رجل واحد.. مخابراتنا وقواتنا الخاصة ومحققينا وأجهزتنا ورجال العصابات والقتلة المحترفين من جميع أنحاء العالم.. _186_ كلهم يبحثون عنه منذ سنة.. وما زال قادرا على التفجير هنا وهناك.. وهذه المرة جرؤ على.. قاطعته "سونيا" بصوت بارد: لأنكم حمقى. نظر لها الجميع بدهشة وقال "ريجان": ماذا تقولين؟ ماذا تقصـ... قاطعته مرة أخرى: مع احترامي لكل قواتكم ومخابراتكم.. لكنكم جميعا أغبياء.. لا يفل الحديد إلا الحديد.. تاجر المخدرات لا يصل إليه إلا تاجر مخدرات مثله. قال لها "نورث": هراء.. إن تجار المخدرات أيضا يبحثون عنه مثلنا منذ سنة كاملة بلا جدوى. قالت "سونيا" بذلك الصوت ذو البحة المقلقة: لأنهم لا يكافئونه.. قلت لا يصل إليه إلا من هو مثله.. وليس مثل "بابلو إسكوبار" أحد سواي في هذا العالم.. أنا الوحيدة التي أفهم كيف يعمل وأعرف كيف يهرب منكم جميعا.. وكيف يذيقكم ما يذيقكم.. ولو كنت مكانه لفعلت مثله وربما أكثر.. لأنكم أغبياء. قال "بوش" الأب: إذًا ماذا تنتظرين؟ الحرب دائرة هناك.. يمكننا أن ندعمك بكل ما تطلبين. ضيقت "سونيا" عينيها وقالت: أنتظر فشلكم.. لا طعم للنجاح في أمر ما إلا بعد أن يفشل به الآخرون.. وبعد فشلكم أعدكم أن تزين رأس "بابلو" هذا طلقة فضية من بندقيتي القناصة. نظر لها "ريجان" بدهشة حقيقية: قناصة؟ هل أنت قناصة؟ قالت له "سونيا": ولم العجب سيدي الرئيس.. ألا تدري أن أعظم من مسك القناصة في العالم النساء؟ نحن أطول بالا وأكثر تركيزا وأدق ملاحظة. _187_ قال لها "نورث": هراء.. أنتن لـ.. قاطعته "سونيا" وهي تشير إلى صورة كبيرة على الجدار لامرأة فاتنة ترتدي زيا عسكريا وقالت: "لودميلا بافيلتشينكو".. روسية.. أذاقت قوات هتلر الويل في الحرب العالمية الثانية.. كانوا يسمونها Lady Death . ثم أشارت بسرعة لصورة أخرى مقابلة لها وقالت: "روزا شانينا".. روسية أيضا.. ابنة تسعة عشر عاما فقط.. أول امرأة قناصة تمنح وسام المجد. كان الجميع صامتا ينظرون إلى "سونيا".. لاحظوا أنها تعلق صور الكثير من الفتيات القناصات هنا وهناك.. هذه المرأة تعشق القناصة حقا.. قالت "سونيا" بنرجسية: حان الوقت لأن تروا قناصة محترفة أخرى .. لكن هذه المرة من بوليفيا.. قناصة ستثبت لكم أنكم مهرجون .. قناصة ستصل إلى رأس غريمكم الوسيم هذا في خلل أيام معدودات. نظرنا إلى التلفزيون .. ما زال يعرض صور "بابلو إسكوبار" في ركن الشاشة ويعرض النيران الرهيبة التي اندلعت في قصر العدالة.. نيران تجمعت حولها الكثير من قوات الإطفاء يحاولون إطفاءها بل جدوى. مرة أخرى تموهت الدنيا حول التلفزيون .. ولم نعد نرى تقريبا سوى الشاشة والنيران التي يصورها ووجه "بابلو" الساخر.. بدأت الأجواء تقترب من النيران أكثر وأكثر.. حتى بدا وكأننا دخلنا إلى وسط النيران.. وعلى الفور تحول المكان غير المكان.. و.. *** فجأة وجدنا أنفسنا تحت السرير وفوقنا مرتبة من مراتب السرير تغطينا وملاءات تخفي وجودنا تماما.. بجانبنا كان "بابلو إسكوبار" لكنه هنا صغير لم يكمل الخامسة من عمره بعد وبجانبه أخوه "روبيرتو" الذي يكبره بسنة واحدة وأخته "جلوريا" الصغيرة.. أخرجت رأسي من بين الملاءات لأرى ما الأمر.. كان باب الغرفة يشتعل بنيران رهيبة.. وهناك صرخات رجال كثيرين يحاولون كسره من الخارج.. ويقسمون بكل غال أنهم سيدخلون لقص رؤوسنا. _188_ لقد أخذنا مشهد النيران في التلفزيون إلى مشهد نيران آخر من طفولة "بابلو".. طفولة قضاها في فترة اشتعلت فيها الحرب الأهلية بين الليبراليين والمحافظين في كولومبيا.. كان الحل الوحيد أمامك في تلك الأيام هو أن تغلق عليك باب بيتك ليلا وتتظاهر أنك ميت. كانوا يأتون إلى المنازل ويقتلون أهلها ويرمون جثثهم خارجها.. من هم الذين يأتون ؟ لن تدري أبدا.. ما زالت الضربات على الباب أمامنا تتصاعد وتتصاعد.. حتى أصبح صوتها على الباب منذرا بكسره..وفجأة انكسر الباب.. ودخل علينا أكثر من عشرين رجل غاضب.. سمعنا طلقات غزيرة جدا توقعنا بعدها أن نسمع صوت ارتطامها بأثاث المنزل الخشبي فوقنا.. لكننا سمعنا أصوات تساقط الرجال وصرخاتهم.. كانت الطلقات قادمة من خلفهم.. طلقات الجيش الكولومبي.. في الدقائق التالية كنا جميعا خارجين من المنزل نمشي في صف من الناجين من المنازل الأخرى يحيط بنا رجال الجيش. كان "بابلو" الصغير يبدو مندهشا أكثر منه خائفا.. كانت هناك جثث مرمية على المزاريب وجثث أخرى معلقة على أعمدة الإنارة.. إن عصابات "الكوزميروس" قد شبّت النار في معظم الجثث.. وبقت رائحة اللحم المحترق تزكم أنوفنا. بين كل هؤلاء الناجين كان هناك رجل بدا شكله عجيبا نوعا ما.. كان يرتدي معطفًا أسودَ طويلًا وطاقية سوداء ولا يبدو جزعا بل يبدو نظيفا لامعا.. كان يمشي بتؤدة إلى جوار "بابلو" وأخيه.. أليس هذا هو الرجل الذي دخلنا له في التلفزيون ذات مرة وكانت الأجواء بالأبيض والأسود؟ نعم إنه هو. كان الظلام شديدا ونحن نمشي.. لا يضيء طريقنا سوى نيران المنازل المحترقة خلفنا.. نيران تراقص مزيدا من النيران.. مرة أخرى تموهت الأجواء كلها حتى لم نعد نرى سوى ذلك الرجل ذي الطاقية وحده دون غيره.. ومرة أخرى أخذنا هذا العالم إلى عالم آخر يخص هذا الرجل.. عالم كل شيء فيه أبيض وأسود. *** ذلك الرجل ذو الطاقية يتجرع الـ Vin Mariani بنشوة لا مثيل لها.. ليس هناك أحلى من شراب يجمع الخمر والكوكايين.. نحن في الـ 1860 .. دخل الرجل إحدى الصيدليات.. دخلنا وراءه.. اشترى الرجل شيئين من هنا.. وها هو يخرج من الصيدلية ويفتح الشيء الأول في عجالة.. إنه علبة صغيرة فيها بودرة.. اسم شركة _189_ الأدوية المصنعة يبدو مألوفا لنا.. Park Davis .. الرجل يفتح علبة البودرة الصغيرة.. ثم يضعها على أنفه ويستنشقها استنشاقا.. إنها كوكايين.. في تلك الأيام كان الكوكايين يباع في الصيدليات لأي أحد.. بل إن إعلان الشركة عنه وقتها كان بليغا جدا.. كانوا يقولون "إنه سيجعل الجبان شجاعا وسيجعل الصامت بليغا وسيجعل المتألم لا يتألم". أخذ الرجل العلبة الثانية التي اشتراها.. كانت علبة شراب سعال.. الشركة تبدو مألوفة أيضا.. شركة Bayer الألمانية.. والدواء اسمه "هيروين".. اتسعت عيوننا.. هيروين؟ الرجل يفتح علبة الشراب ويشرب الزجاجة كاملة.. ومثل هذا كان يفعله سكان أوروبا كلهم.. حتى النساء والأطفال.. الكوكايين والهيروين كانا شيئين رائعين يحبهما الناس.. وكانا ينتهيان من السوق فور نزولهما بأيام.. هذا الرجل ذو الطاقية يرينا أشياء عجيبة حقًا. ظللنا نمشي وراءه.. الصورة تموهت من حوله ثم زال تموهها لنجد أنفسنا قد سافرنا من أوروبا إلى أمريكا.. تحديدا إلى ولاية أتلنتا.. وهناك إعلان على الجدار.. الـ French Wine Coca .. نوع جديد من الخمر في أمريكا.. كان هناك صيدلي في أتلنتا اسمه الدكتور "بيمبرتون".. رأى الأعاجيب التي يفعلها خمر الـ Vin Mariani في أوروبا فأحب أن يصنع المستحضر الخاص به في أمريكا والذي يعتمد على نفس الفكرة.. الكوكايين مع الخمر.. في كل زجاجة خمر من خمره كان يضع ما يعادل خطًا من الكوكايين.. وحين أقول "خطا" فأنا أعني ذلك الخط الذي يصنعه المدمنون بالأمواس هذه الأيام حين يجعلون البودرة على هيئة خطوط يستنشقونها واحدا وراء الآخر. كان مكتوبا في الإعلان عنه أنه المشروب الذي سيجلب لك اللذة والبهجة والذكاء.. وحقا كان مشروبه يفعل هذا.. المشروب السحري الذي غش تركيبته من الـ Vin Mariani كان يباع بشكل كبير جدا في أتلنتا فقط ولم يخرج خارجها لأن الرجل لم يكن قد أنشأ له شركة كبيرة بعد. وبغض النظر عن "بيمبرتون" وتركيبته في أتلنتا فإن الكوكايين نفسه كان قد انتشر في أمريكا كلها وعشقته أمريكا جدا.. نرى ذلك الرجل ذا الطاقية الآن يدخل إلى أحد الهايبر ماركتس الشهيرة.. Sears & Roebuck .. ووقف في الداخل أمام إعلان لفت أنظارنا حقا.. حقيبة بلاستيكية صغيرة يعلنون عنها بقولهم "هدية الضيافة للأصدقاء" A Welcome Present for Friends at the Front .. كانت حقيبة فيها كوكايين وهيروين ومحاقن وإبر.. هكذا كانت تباع بكل فخر.. _190_ لو أردت أن تقضي مع أصدقائك ليلة جميلة مليئة بالنشوة.. فهذه الحقيبة هي ما ستحتاجه.. هذا الرجل اشترى تلك الحقيبة وخرج من الهايبر ماركت وفتحها في الشارع وبدأ يستخدم ما فيها بحماس. وفجأة وبدافع من بعض الحركات الإصلاحية نزل قرار في أتلنتا بتحريم الخمر في هذه الولاية تماما.. كان هذا في ثمانينات القرن التاسع عشر.. الـ 1880 كما نقولها بالأرقام.. فاضطر الدكتور "بيمبرتون" إلى إجراء تعديل في تركيبته الخمرية السحرية.. فأزال الخمر تماما من التركيبة ووضع بدلا منه ما ء محلى بالسكر.. فأصبح ماء مسكر وكوكايين.. وغير اسم المنتج ووضع له اسما جديدا.. كوكا كولا... وفجأة تحولت الزجاجة التي في يد الرجل ذي الطاقية إلى زجاجة كوكا كولا.. نظر إليها باستغراب ثم شرب منها.. كان منتشيا.. وهذا طبيعي.. فكوكاكولا تلك الأيام كان فيها خط من الكوكايين في كل زجاجة. تلونت الدنيا تدريجيا وعدنا فجأة إلى حيثما كنا قبل أن نأتي إلى هنا.. أين كنا؟ كنا عند "بابلو" الصغير وهو يمشي مع الناجين ووراءهم منازلهم المحترقة.. وقبل حتى أن نلتقط أنفاسنا.. وفور أن نظرنا إلى تلك النيران.. تموهت الدنيا حولها وأصبح كل ما نراه هو نار مشتعلة.. نار أخذتنا إلى نار أخرى .. في مكان آخر. *** هذا العالم تنقلاته سريعة جدا ألا ترى هذا.. كنا نقف أمام مقلب قمامة يحترق .. كان يحترق ويحرق معه جميع المنازل التي تحيط به.. كانت منازل لفقراء معدمين.. كانوا يستفيدون من هذه القمامة ببيع الأشياء التي فيها.. كانوا يعيشون على خير القمامة.. والآن هي تحترق أمام أعينهم.. وصوت احتراق قلوبهم يغلب على صوت النيران في الأجواء.. كان العديد منهم يبكون حسرة على منازلهم.. وعلى قمامتهم. كان هناك عدة مسؤولين يقفون وسطا لأهالي بينما يطفئ رجال المطافئ النيران.. المسؤولون يثرثرون ويعدون الفقراء كالعادة.. الفقراء يستمعون لهم في إحباط.. ووسط كل هذا توقفت سيارة سوداء فاخرة جدا ونزل منها الرجل.. "بابلو إسكوبار".. كان هذا قبل الحرب التي أعلنتها أمريكا على تجار المخدرات.. ترك الفقراء كل المسؤولين الذين كانوا يحدثونهم وتجمعوا كلهم حول "بابلو".. كان هذا شيئا عجيبا.. أليس من المفترض أنه مجرم؟ على الفور تعاقد "بابلو" مع شركة عقارية كبيرة وبنى لهؤلاء الفقراء البسطاء _191_ أربعمائة بيت صغير جميل سلمهم إياهم واحدا واحدا.. وها نحن نرى هذه البيوت الآن مبنية بدلا من مقلب القمامة.. ثم رأينا نفس الناس متجمعين حول "بابلو" في امتنان حقيقي.. الناس هنا تعشق "بابلو إسكوبار" لو لم تكن تعلم.. هذا الرجل ينفق من ثروته الكثير جدا لمساعدة فقراء بلدته.. معظم البيوت في دولة كولومبيا بكافة أرجائها لو دخلتها ستجد فيها صورة "بابلو" معلقة.. سيقولون لك أنه الرجل الذي أكرمهم. لقد خدم الكثير جدا من الناس خدمات جليلة.. الناس الذين لا وظيفة لهم كانوا يذهبون لبابلو.. فيعطيهم راتبا شهريا ويكلف رجاله أن يبحثوا لهم عن عمل.. الشباب الذين لا يستطيعون دفع مصاريفهم التعليمية... يدفعها لهم "بابلو" كاملة.. مرضى السرطان والإيدز أو أي مرض آخر.. يدفع لهم مصاريف علاجهم.. ويعين موظفين مخصوصين حتى يتأكد من أن جميع من يأتيه طلبا للنقود هو فعل يحتاجها.. في الأعياد مثل الكريسماس كان يعين موظفات مخصوصات يذهبن لشراء الكثير جدا من ألعاب الأطفال والحلوى ويوزعنها على الأطفال.. خمسة آلاف لعبة توزع في كل عيد.. كان فلاحو كولومبيا يسمونه "روبن هود" بسبب كل تلك الهدايا التي يغرقهم بها طيلة الوقت. كان "بابلو" رجل طيب القلب حنونا وقاسيا وعنيفا جدا.. لا تدري كيف جمع هذا بشري واحد.. البعض كان يعتبره قديسا.. والبعض كان يعتبره وحشا رهيبا دمويا.. تتذكر كل الأشياء الرائعة التي فعلها بأمواله.. ثم تتذكر كل الأشياء الشنيعة والقتل والتفجير الذي فعله.. تقول عنه منظمة فوربس أنه سابع أغنى رجل في العالم.. لكنهم لم يستطيعوا تقدير ثروته الحقيقية أبدا.. لأن الكثير جدا منها كان مخبأ في جدران كثير من البيوت التي يملكها. كان "بابلو" واقفا والفقراء حوله فرحون لا يعرفون كيف يعبرون له عن سعادتهم.. وكان هناك أطفال يلعبون بالكرة في ملعب صغير بناه لهم بابلو وسط البيوت الصغيرة.. كان "بابلو" شاردا ينظر إلى الكرة.. وعلى الفور تموهت الموجودات كلها وبقت الكرة وحدها واضحة.. ثم زال التموه من حول الكرة لنجد أنفسنا في مكان آخر.. وعند كرة أخرى .. وأطفال يلعبون بها في شارع آخر.. نرى بينهم "بابلو" وهو ابن عشر سنين.. ونرى أخاه "روبيرتو" بجانبه.. كان معهم ستة أطفال آخرون.. دعني أعرفك.. هؤلاء الثلاثة النظيفون نوعا ما مقارنة بالباقين هم الإخوة "أوشوا" Ochoa Brothers .. هؤلاء لمَّا كبروا صاروا أكبر عصابة مخدرات في أمريكا.. ألا تذكرهم من حديث نيكسون وسونيا؟ _192_ أما ذلك الفتى هناك والذي تبدو على وجهه صبغة الإجرام هو "جاتشا" Jose Rodriguez Gacha .. لقد تحول "جاتشا" إلى مجرم عديم الرحمة لما كبر.. كان ساديا.. ترأس واحدة من أكبر منظمات المخدرات في أمريكا اللاتينية. وانظر هناك إلى ذلك الفتى ذي الشعر الطويل الذي يجري بالكرة.. اسمه "ليهدار" Carlos Lehdar .. وهو من أعز أصدقاء "بابلو" ومن أكبر زعماء المخدرات في كولومبيا. وأخيرا ذلك النحيل هناك هو El Mugro أي "القذارة".. ولا أدري لماذا اختاروا له هذا الاسم.. لم يصبح "القذارة" زعيم مخدرات هو الآخر.. لكنه أصبح الحارس الشخصي لـ"بابلو" فيما بعد. باختصار.. كنا نشاهد مباراة كرة قدم بين أكبر زعماء تجارة المخدرات في العالم.. إن أشكالهم لا يبدو عليها ذلك أبدا.. مثلهم مثل أي أطفال يتصايحون ويلعبون ويتدافعون. فجأة جاءت سيارة شرطة وتوقفت بجانب الصغار ونزل منها شرطي ممتلئ الجسم.. أخذ منهم الكرة وعاتبهم بعنف.. لم يفعل تجار المخدرات الأطفال شيئا.. لكن "بابلو" الصغير جمعهم إليه ثم اتفق معهم أنهم سيرمون حصى على سيارة الشرطة لو أتت مرة أخرى وأوقفت مباراتهم.. كان لدى "بابلو" حس قيادي منذ صغره.. وبالفعل أتت سيارة الشرطة مرة أخرى .. واستقبلها الأطفال بالحصى حتى كسروا زجاجها.. وعلى الفور جرى الأطفال وجرت الشرطة وراءهم حتى أمسكت بهم وساقتهم إلى القسم.. قال لهم الضابط الكبير مدير القسم: هل تعرفون ماذا سأفعل بكم؟ ستذهبون إلى السجن.. أتدرون ما هو السجن؟ إنه المكان الذي سيعلمكم الأدب الذي لم يعلمه لكم أهلكم. هنا رد عليه "بابلو" وقد كان أصغر الأطفال الموجودين سنا: نحن لم نفعل شيئا خاطئا.. لقد تعبنا من هؤلاء الرجال الذين يأتون كل حين ويأخذون كرتنا.. ما مشكلتهم بالضبط.. الزجاج؟ يمكننا أن ندفع لهم ثمن الزجاج. كان صغيرا لكنه لم يجد في نفسه أي خوف للتحدث إلى مدير القسم بهذا الصوت القوي .. لم يكن أحد يدري بأن "بابلو" سيحكم هذه المدينة يوما ما.. وسيشتري كل مدراء الشرطة هؤلاء.. وأنه سينشئ منظمة كبيرة تضم منظمات كل رفاقه هؤلاء.. منظمة تدعى "ميديلين" Medelin .. منظمة تضم منظمة "بابلو" ومنظمة "جاتشا" ومنظمة "ليهدار" وتشارك في بعض الأعمال مع منظمة الإخوة _193_ "أوشوا".. كانت منظمة "ميديلين" هي أكبر منظمة مخدرات في العالم.. حتى أتى ذلك القرار الأمريكي.. فاختفى كل رؤوسها الستة وأصبح الجميع يبحثون عنهم بحثا محموما بلا جدوى .. مخابرات وقوات وعصابات.. ثم أتت لحظة انقلبت الموازين كلها رأسا على عقب... لحظة انضمت فيها "سونيا أتالا" إلى قافلة البحث. *** اقتربت الصورة من ذلك النحيل الذي يدعى "القذارة".. وجدنا وجهه النحيل قد انقلب فجأة وتبدلت بنا الأجواء كلها لنجد "القذارة" مقلوبا مربوطة إحدى قدميه بهليكوبتر يتدلى منها وهي تطير عاليا بعصبية وتطلق النار علينا.. نحن الذين وجدنا أنفسنا فجأة مختبئين مع "بابلو" وأخيه وراء أحد الجدران.. كنا نرى الهليكوبتر ولا ترانا.. كانوا يعلقون "القذراة" بهذا الشكل وهناك من يهدده بأنه إن لم يخبر عن مكاننا سيقطعون عنه الحبل. كان الحبل طويل متدليا من الهليكوبتر التي تطير على مستوى مرتفع جدا.. والنحيل "القذارة" معلق فيه ويساق يمينا وشمالا.. رأينا امرأة برزت من الهليكوتر.. امرأة ترتدي زيا أنيقا أبيض اللون جلديا.. كان "القذارة" ينظر لها ويصرخ ويبلغها بمكاننا.. مثله مثل القذارة حقا.. كانت هذه هي "سونيا أتالا".. التي أمسكت قناصتها بسرعة وأطلقتها بدون انتظار ثانية واحدة.. أصابت طلقتها الحبل الذي كان يمسك بالقذارة فسقط.. وربما يكون قد مات لا ندري .. لكن أمطارا من الرصاصات نزلت على المكان الذي كنا نختبئ فيه.. لكننا نجحنا في الهرب. بدت "سونيا" عصبية جدا واقتربت الأجواء من عينيها الرماديتين الجميلتين.. التي ضيقتهما وأغلقت إحداهما.. تموهت الدنيا ودخلنا إلى عينيها وخرجنا لنرى ما تراه.. انتقلنا بضعة أيام إلى الأمام.. كانت "سونيا" تنظر من منظار بندقيتها هذه المرة إلى "جاتشا".. كان يتحدث مع ابنه المراهق "فريدي" في إحدى المزارع.. ونيران حولهما في كل مكان.. وهناك قوة قوامها حوالي ألف رجل ما بين جيش وشرطة كلها تمشط المزرعة بحثا عن "جاتشا".. نجحت "سونيا" في التوصل لمكان "جاتشا" بخطة بسيطة.. أن تقبض الحكومة على ابنه المراهق "فريدي" بأي تهمة غبية لا صحة لها.. وتبقيه في السجن فترة طويلة يلقى فيها أسوأ أنواع المعاملة.. ثم تخرجه فجأة.. وبعد أن تخرجه كانت تعلم أنه سيذهب لمقابلة أبيه بطريقة ما.. فهي تعرف هؤلاء الكولومبيين جيدا.. هم يقدسون العائلة جدا ولو كانوا أعتى مجرمين. _194_ وبالفعل توجه "فريدي" لمقابلة أبيه في إحدى المزارع.. ليجدوا السماء قد أسقطت عليهم جنودا.. "سونيا" كانت تحتفظ لنفسها بمكان الضحيتين.. وكانت تنظر لهما مليا من قناصتها.. ثم حسمت قرارها لما رأت "جاتشا" يعاتب ولده ويحتضنه في مشهد أبوي .. وهنا انطلقت من قناصة "سونيا" طلقة فضية أصابت رأس "فريدي" الصغير.. ورأت في منظار قناصتها كيف جن جنون "جاتشا".. كان ينظر هنا وهناك محاولا تحديد مكانها.. ثم إنه فعل شيئا عجيبا جدا.. أخرج فجأة قنبلة يدوية عادية.. ولوح بها وهو يتحدث بحديث لا تسمعه من هذا البعد طبعا.. لكن واضح أنه سباب.. ثم نزع "جاتشا" فتيل القنبلة.. ووضعها في فمه.. فانفجرت في وجهه وقتلته على الفور.. وهنا أرخت "سونيا" زمام قناصتها وأظهرت عيناها الجميلتان تعبيرا يقول أنها كانت تقصد ما حدث كما حدث.. وأنها سعيدة جدا لهذا. إن دخول "سونيا" إلى الساحة كان مميتًا بالنسبة لعصابة "ميديلين".. وما هي إلا أيام وسلم الإخوة "أوشوا" أنفسهم للشرطة.. ولأن "أوشوا" وإخوته متعاملين مع الحكومة الأمريكية منذ البداية فقد تم الاحتيال على القانون عن طريق محامين كبار وثغرات هنا وهناك.. وخرج "أوشوا" وإخوته بكفالة ضخمة دفعوها بكل بساطة.. ولم يبق إلا "بابلو" وأخوه وصديقه "ليهدار" ذو الشعر الطويل. *** كانت النيران في كل مكان حولنا في مزرعة "جاتشا".. كنا نريد الخروج منها إلى مشهد آخر.. رأينا ظلًا يقترب منا.. لم نتبينه جيدا وسط الدخان.. كنت أسعل سعالا شديدا.. اقترب الظل أكثر حتى عرفناه.. إنه سكوربيون .. رائع.. لقد أصابني هذا العالم بالدوار.. أشار لنا سكوربيون لنتبعه.. مشينا وسط أحراش ونيران وأدخنة وجثث.. وأدخلنا سكوربيون إلى أحد المباني وأغلق الباب الفولاذي خلفه.. ثم ابتسم لنا بهدوء.. كانت قاعة صغيرة مكيفة مليئة بأجهزة الكمبيوتر.. ما الذي كان يفعله "جاتشا" بقاعة كهذه؟ من الصعب أن تعرف الآن. _195_

 
0%
 
0
 
0
تم عمل هذا الموقع بواسطة