إنانا image


اهبطي يا "إنانا" . .

1900 قبل الميلاد



نظر بافتتان إلى جسدها شِبه العاري والمستلقي في استسلام عجيب على ذلك السرير الوثير ذي الأغطية الحمراء.. والذي تنبعث من حوله إضاءة حمراء خافتة لشموع صغيرة أضفت جوًّا محبَّبًا من اللذة.. اقترب من جسدها حتى دخلَ في مجال عطرها.. تنفَّسه في نشوة.. ثم غشيته الشهوة فتحركت يده بسرعة إلى شعرها فقبضت عليه في عنف رومانسي يجيده كما يجيد التقبيل . 

اقترب وجهه من وجهها.. لفحتها أنفاسه الحارة.. نظر إلى شفتيها عن قُربٍ.. ليست هاتان شفتين.. إنما هذا توت أو ياقوت.. قبّلهما بعنف رجولي يعجب النساء.. نظر إلى عينيها.. هذه المرأة كل ما فيها جميل.. ظلَّ يقبِّل شفتيها ووجنتيها وعينيها حتى ثمل . 

إن الكاميرا التي تصوِّر لك هذا المشهد تصوِّره لك عن قُربٍ متعمَّدٍ؛ فتارة ترى شفتيْ الفتاة وهو يقبِّلهما ببطء وتارة تركز الكاميرًا على عينيها الجميلتين الساهمتين في أمرٍ ما لا تدري ما هو.. ثم تقرر الكاميرا أن تلتف حول وجهها لتصورها لك من الخلف.. إن لها شعرًا أسود طويلًا يمسكه الرجل بقبضة يده القوية بينما شفتاه آخذتان في تقبيلها بحرارة . 

بدأت الكاميرا تنزل شيئًا فشيئًا منذرة بمشهدٍ خلفيٍّ لجسد عارٍ فاتن يناسب جمال هذا الوجه.. وظلت الكاميرا تنزل ببطءٍ حتى تسارعت دقات قلبك المحروم وبرزت عيناك من اللهفة لما ستراه بعد قليل.. ثم اتسعت عيناك.. ولم يكن اتساعها عن شهوة ولا نشوة.. بل لقد اتسعت عيناك من الذعر.. فلما انتهت الكاميرا إلى نهاية شعر الفتاة لم ترَ ظهرها عاريًا كما هو مفترض.. بل لم ترَ شيئًا على الإطلاق.. لم ترَ إلا رداء الرجل.. ثم ابتعدت الكاميرا بسخرية شيئًا فشيئًا لتريك المشهد الكامل.. مشهد لرجل يقف ممسكًا برأس فتاة ويقبِّلها بنهمٍ بينما يستلقي جسدها بعيدًا.. على فراش وثير.. وأغطية حمراء.. وعزفت لك الكاميرا موسيقى رومانسية جميلة إمعانًا في السخرية. 
_49_

لما شبع الرجل أبعد وجهه عنها قليلًا ونظر إلى الرأس المقطوع بتشفٍّ.. ثم رمى الرأس الجميل حتى اصطدم بالحائط بعنفٍ واستقر على الأرض.. وهو في رحلته هذه - الرأس- صنع بقعة من الدماء على الجدار متصلة إلى موضع الرأس الساكن على الأرض.. نظر الرجل إلى البقعة بلا مبالاة ثم اتجه بعيدًا عن السرير.. يمكنك أن ترى الأرضية الآن.. أرضية رخامية جميلة .. لكن أفسد جمالها بضع دوائر مرسومة عليها داخل بعضها البعض في شكلٍ مريبٍ. 

مرحبًا بك في بابل مرة أخرى.. الأرض الملعونة.. نحن في عهد ما بعد النمرود.. لا تدع المشهد السابق يصدمك.. ولاتحزن على الفاتنة أبدًا فهي "إنانا".. وهي ملعونة في الأرض وملعونة في السماء.. ولا تستغرب من هذا الرجل ذي الرداء فهو "هازارد".. و"هازارد" هو أشد سحرة بابل فتكًا في ذلك الزمان.. وقبل أن نكمل المشهد لابد أن تعرف معلومة واحدة.. وهي أن هذا الساحر يلقَّب ب "مانزازو".. و"مانزازو" في البابلية تعني نكرومانسر.. ونكرومانسر تعني.. فلنتابع المشهد لنفهم أكثر.. 

وقف الرجل في وسط الدوائر.. كان يرتدي إزارا طويلًا أحمر عليه خطوط سوداء عريضة.. تنحدر على ظهره قلنسوة رداء الراهب المعروفة.. أخذ يتلو الكثير من التراتيل التي يرتفع فيها صوته حينًا وينخفض حينًا آخر.. وترتفع يداه فيها حينًا وتنخفض حينًا آخر.. ثم إنه خرج من الدوائر وتوجَّه إلى رأس "إنانا" الملعونة وأمسك بشعرها الجميل ثم انحنى بالرأس على الرخام وأخذ يفعل شيئًا عجيبًا. 

وضع الرأس على الأرض وأخذ يحرِّكه في اتجاهات مختلفة ويضغط على مواضع معينة منه.. هذا رجل يعرف ماذا يفعل.. لم يكن بإمكانك أن تفهم ماذا يفعل إلا بعد أن انتهى مما يفعل ورمى الرأس بعيدًا مرة أخرى.. لقد كان هذا الرجل يكتب.. وقلمه كان رأس "إنانا".. ومُداده دمها.. بالطبع لن تفهم حرفًا مما كتب لأنه كتبه بلغة بابلية قديمة.. إن حروف هذه اللغة تبدو مخيفة. 
_50_

ثم أخذ يتلو بصوتٍ متهدج يجيده السحرة : 

- إيتيمو.. إيتيمو.. من فلكك الملعون الدائري اهبطي يا "إنانا".. يا من انحنت لشفتيك هامات الرجال ونواصيهم.. إيتيمو.. إيتيمو.. يامن تنزهت قلوب عن كبريائها بنظرة من عينيك. 

وأخذ يتلو ويتلو حتى أُوقدَت نار من مكان ما حول دوائره.. وصار يهيأ له أنه يرى رؤوس الشياطين.. رؤوس بشعة تلفحها النار التي أوقدتها التلاوات.. ومن بين رؤوس الشياطين برزت له رأس ثم اختفت ثم برزت.. رأس "إينانا".. أو هكذا خُيَّل له.. لابد أن قلب هذا الرجل شديد الثبات.. إن رؤوس الشياطين والحق يقال مخيفة.. مخيفة إلى درجة أن رأس "إينانا" الجميلة التي ظهرت وسطها فقدت جاذبيتها.. ثم انطفأت النار فجأة وأضرمت في مكانٍ آخر.. أضرمت في رأس "إينانا" الحقيقية الملقاة على الأرض. 

لم تكن هذه نارًا وإنما كانت خيالات أودعتها الشياطين في عين "هازارد".. ويبدو أن ما كان يفعله نجح.. وحضرت من تستقي كل جمالات النساء من جمالها.. حضرت "إينانا".. أو كما يلقبها الرومان "فينوس".. ويتحدث اليونان عنها باسم "أفروديت".. أو كما عبدها العرب باسم "اللات".. حضرت "عشتار" كما يناديها البابليون.. جاءت كما يجب أن تجيء آلهة الجمال.. جاءت في أبهى ثوب وأحلى زينة. 

جاءت كطيفٍ أضاء جوانب هذا المشهد المظلم.. بُهِتَ "هازارد" للحظات أمام عظمة هذا الجمال.. ثم تمالك نفسه وقال لها : 

- "إينانا" أيتها الأميرة.. حدثيني بخبر الساحرين "عزازيل" و"شمهازي".. عن رحلتك المقدسة حدثيني يا "إينانا". 

نظرت "فينوس" بجمال عينيها إليه بنظرة كانت للسخرية أقرب وقالت : 
_51_

- لم يكونا ساحرين يا "هازارد".. ولم تكن هذه أسماؤهما.. بل كان أحدهما يدعى "هاروت".. واسم الآخر "ماروت" .. ولم تكن رحلتي مقدسة.. إنما كانت ملعونة. اندهشت تعابير "هازارد" الصارمة وقال : 

- أرجوك يا سيدة أهل الجمال أخبريني بكل ما رأيت كما رأيت. 

تقدمت "فينوس" بخطوات ملكية إلى منتصف الدوائر المرسومة على الأرض.. ثم رفعت ثوبها الطويل قليلًا وجلست مكانها.. وبدأت تحكي.. 

تقول "فينوس".. 

إنما كنت مبعوثة من قِبَل سحرة "أوروك" إلى مدينة بابل.. وأنت تعلم عظمة مدينة أوروك وتفوقها في علوم السحر.. إنها المرة الوحيدة التي أخرج فيها من مدينتي الحبيبة أوروك.. والمرة الأخيرة في الواقع.. كانت القصة أنه أتى إلى كبار سحرة أوروك نبأ وجود ساحرين في مدينة بابل طغى سحرهما على سحرة بابل كلهم من أكبرهم إلى أصغرهم.. وأن أحدهما يدعى "عزازيل" والآخر يدعى "شمهازي". 

وقيل إن هذين الساحرين يُعلّمان الناس السحر بلا مقابل.. بل ويطلبان ممن يتعلّمه منهما أن ينشره بين أكبر عدد ممكن من الناس أو هكذا قيل عنهما.. كانت مهمتي أن أتعلم منهما كل ما يُعلّمانه للناس وما يخفيانه عن الناس.. وأنت تعرف أنه لم يُخلَق رجل ملكًا كان أو ساحرًا.. شابًا كان أو شيخًا.. أمكنه أن يصمد أمام سحري الخاص.. سحري الأنثوي الخاص.. الخلاصة أنني كنت الوحيدة المناسبة للقيام بهذه المهمة.. وكان عليَّ أن أدوِّن كل أتوصَّل إليه وأنقله إلى سحرة "أوروك". 

المشكلة أن سحر هذين الساحرين أبطَل كل سحرٍ كان يبرع فيه سحرة بابل أجمعين.. كان هذا كلاما عجيبًا جدًا.. فهناك أصناف من السحر في بابل لم يستطع أعتى السحرة في أوروك فهمها.. 
_52_

فضلًا عن معرفة كيفية فكها فكها.. مثل سحر اللوحة؛ تلك اللوحة التي قد رسموا عليها أنهار بابل كلها.. فإذا خالفهم الناس في أمرٍ يريدونه وضعوا إبرة في موضع أحد الأنهار في الرسمة.. فإذا فعلوا هذا توقف جريان النهر الحقيقي وغار ماؤه. وسحر المرآة.. فمن غاب له عزيز كان يأتي سحرة بابل ويقدم لهم ما يطلبونه.. فيسمحون له أن ينظر في المرآة ليرى ذلك الغائب على حاله التي هو عليها.. المشكلة أن سحر هذين الساحرين كان يبطل كل هذا وأكثر منه. 

رائعة هي بابل.. بغضّ النظر عن مهمتي التي لم أكن متحمسة جدًّا لها.. كان لابد من رؤية برج بابل العظيم وحدائقها المعلقة.. ورغم أن هذين كان لا يدخلهما سوى ملك آشور وعائلته إلا أنك تعرف حكاياتي مع الملوك.. وتعرف أن آخر ملك زرته انتهى به الأمر راكعًا تحت قدمي يقبّلهما.. وكنت أعرف أن هذين الساحرين سيركعان تحت قدمي بدورهما وسيُقرّان لي بكل ما تعلماه منذ كانا أطفالًا يلعبان في المروج. 

لكنني منذ أن بدأت أسأل عن "عزازيل" و"شمهازي" هؤلاء كنت أسمع قولًا عجبًا.. قيل لي إن لديهما مغارة على حدود بابل الجبلية.. وأن هذه المغارة يقصدها الآن نفر كثير من أهل بابل.. ومن يذهب إليها يُختبر اختبارًا غريبًا.. فلو فشل فيه يُطرَد ويعود.. ولو نجح فيه يدخل إلى هذه المغارة ويظل فيها سنة كاملة لا يخرج منها.. ولما يخرج.. يكون لديه من الفنون والعلوم ما يفوق عِلم أي ساحر في بابل أو خارج بابل.. ولا يتمكن أي ساحر أن يسخِّره كما يسخر عامة الناس. 

لم تكن المغارة تُفتَح إلا يومًا واحدًا فقط في السنة كلها وتظل بقية السنة مغلقة فلا يقدر على فتحها أعتى الجبابرة.. وقد كان ذلك اليوم الذي تُفتح فيه تلك المغارة قريبًا جدًا.. لطالما كنت محظوظة.. وها أنا ذا يسوقني راع أُعجب بجمالي على حصانه ويتجه بي إلى تلك المغارة.. 
_53_

- ها قد وصلنا أيتها الفاتنة.. هذه هي المغارة.. لا أدري ما الذي يُجبر أميرة من أميرات الإنس أن تدخل إلى هذا المكان. 

- لا شأن لك بهذا أيها الراعي.. انتظرني هنا.. فإن لم أخرج لك عد إلى ديارك. 

- يمكنني أن أنتظرك العمر كله يا أميرتي.. فالديار من بعد رؤياك ستصير قبورًا. 

يحق للراعي أن يقول هذا وأكثر.. فقد كان يحمل "فينوس" بنفسها.. دعنا منه الآن.. لم يكن منظر المغارة يوحي بأن لها شأنًا ما.. كانت مجرد فتحة صغيرة في الجبل.. وكان واقفًا أمامها رجال كثير ونساء.. وقد وقفت معهم حتى خرج لنا الساحران إياهما.. وليتني لم أرهما. 

كانت المرة الأولى التي أرى فيها بشرًا أجمل منِّي.. ليس واحدًا بل اثنين.. وليستا امرأتين بل رجلين.. المرة الأولى التي يخفق فيها قلبي بهذه القوة.. منذ متى كان الرجال بهذا الجمال.. منذ متى كانت الرجولة بهذه القوة.. يبدو أن مهمتي هنا قد فشلت قبل أن تبدأ.. فمجرد النظر إلى هذين الرجلين كان ينسيني ما كنت آتية بشأنه. 

دخلت المغارة مع الساحرين الوسيمين.. وقد أبقى ما رأيته بداخل المغارة شفتاي مفتوحتان من الدهشة.. كيف يمكنني أن أصف شيئًا كهذا.. في البداية حتى يمكنني أن أنقل لك ما رأيته يجب أن تلغي كل الصور التي في ذهنك عن الكهوف والمغارات التي تكون دائمًا ضيقة.. هذه المغارة كانت واسعة كالقصر.. سقفها بعيد جدًّا عن رؤوسنا.. يجري أمامنا نهر أوله عند قدمي وآخره في الأفق.. ينبع من نبع ماء عذب قريب.. الجدران تبدو وكأن بها شيئًا مختلفًا.. فهي ليست صمَّاء ككل الصخور.. بل هي مليئة بالشقوق الصغيرة الدقيقة جدًّا والتي تُظهِر الشكل العام للجدران من بعيد وكأنها مزخرفة.. كانت هذه هي أول صورة قابلَتْها عيناي. 
_54_

أخذنا الرجلان فأوقفانا على حافة النهر الجاري.. وطلبا منا طلبًا غريبًا جدًا.. يبدو أن هذا هو الاختبار الذي يقولون عنه.. طلبا منا واحدًا واحدًا أن نتفل في النهر ثلاث تفلات.. قالا إن هذا اختبارٌ صغيرٌ يعرفان به الساحر من غيره.. كنت الثالثة في الطابور.. تفل الرجل الواقف في بداية الصف مرته الأولى.. نظرت إلى الماء لعلي أرى شيئًا؛ فرأيت نقطة زرقاء تمضي مع النهر في جريانه.. ورأيت مثل هذا في تفلته الثانية والثالثة.. اقترب منه أحد الساحرين الوسيمين وطلب من أحد رجاله أن يأخذه معه إلى صخرة ما لست أذكر اسمها. 

ثم تفل الرجل الثاني.. نظرت إلى المياه فرأيت نقطة حمراء تجري مع جريانه.. ورأيت مثلها عندما تفل الثانية والثالثة.. قال له أحد الساحرين الوسيمين بلهجة معاتبة: 

- ليس هذا مكان لمن تعلموا السحر في مكان آخر. 

وساقه أحد الرجال إلى الخارج.. والآن جاء دوري.. الآن فهمت الاختبار فابتسمت بثقة.. أنا لم أتعلم السحر في أي مكان.. تقلت ثلاث تفلات رقيقة في الماء.. ونظرت إليها فوجدتها كلها زرقاء.. وهنا أخذني أحد الرجال إلى تلك الصخرة إياها التي نسيت اسمها. 

كانت صخرة ضخمة تقف بشموخ في وسط النهر.. وكانت مليئة بالشقوق الصغيرة إياها.. لكن هناك جملة قد كُتِبَت في أعلى الصخرة باللغة البابلية.. جملة تقول " من فُتن بنا فليس منا.. من فُتن بنا فقد كفر".. لم أفهم شيئًا ولم أكترث.. الجميل في هذه المغارة العجيبة أن فيها غرفًا منحوتة في الجدران.. أشعر أن هذه ليست مغارة.. أشعر أنها قرية صغيرة عجيبة.. عرفت معلومة أخرى لم أكن أدري كيف وصل غبائي لئلا يفكر فيها من قبل.. 
_55_

نحن لن نخرج من المغارة إلا بعد سنة كاملة لا ينفتح فيها بابها كما قال الأهالي.. فماذا سنأكل؟ 

كان الطعام هو النواشف التي لا تفسد.. مثل الزبيب والجوز واللوز التي يأتون بها بكميات كبيرة جدًّا ويخزنونها لتكون لنا طعامًا.. والشرب هو من مياه النبع العذبة.. هكذا فهمت كيف تدار الأمور هنا.. لكن بالنسبة لمهمتي فلا أدري.. كل هذا لم يكن بحسباني.. ثم إن الرجلين لم ينظرا لي لأكثر من ثانية.. أنا أعرف الرجال عندما ينظرون إليَّ.. أعرف كيف يتوترون لما يحدثونني.. لكن هذين الوسيمين أشعراني بأني جدار لا تأثير له على أحدٍ.. لكن لم يُخلَق رجل وقف أمام "فينوس".. ولن يخلق. 

في كل يوم كان يمر عليً وأنا في هذه المغارة أعرف مقدار خطورة المهمة التي أُرسلتُ فيها.. علمت أن السحرة الذين كانوا يسخّروننا لخدمتهم إنما هم حثالة الناس يا "هازارد".. بل إن الحيوانات أطهر منكم يا "هازارد".. تعلمت أن قدرتكم الإعجازية هي في الحقيقة ليست قدرتكم وليست إعجازية.. إنما هي قدرات الشياطين الذين بعتم لهم كرامتكم.. عرفت في تلك المغارة معنى الإعجاز الحقيقي.. علمت أن الكواكب السبعة والشمس والقمر التي يُعلمنا سحرتنا أن نتقرب لها ونعبدها ما هي إلا أجرام وأن لها إلهًا واحدًا هو إله "إبراهيم".. وعلى مثل "إبراهيم" تكون المعجزات.. علمت أن كل ماتفعلونه وهم.. وكل ما تقولونه وهم.. علمت أن أولئك السحرة هم أضعف شيء وأن الشياطين هم أضعف شيء.. علمت لكل تعويذة ساحر تعويذة تفكها.. علمت أن "عزازيل" و"شمهازي" هي أسماء شريرة أشاعها السحرة عن الساحرين الوسيمين.. لقد كان اسمهما يبدو أجنبيًّا جدًّا وجميلًا جدًا.. كان أحدهما يدعى "هاروت" والآخر "ماروت". 

"وما يعلمان من أحدٍ حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر" 
_56_

لكن هذين الساحرين لم يكونا يقدمان ملكًا ولا سلطانًا.. ولا يقدمان ذهبًا ولا فضة.. من يخرج من تحت أيديهما يكون مصونًا لا يقدر عليه أعتى ساحر.. لأنه يعرف الحقيقة.. وبالنسبة لي في ذلك الوقت فقد قررت أن أجمع بين الاثنين.. أن أعرف الحقيقة حتى لا يكون لساحر سلطانٌ عليَّ.. وأن ألبس الذهب والفضة.. وليس هذا يأتي إلا بإتمام مهمتي هنا والعودة إلى سحرة أوروك بكل ما تعلمته.. ولكني سأشترط أن أكون أميرة يا "هازارد".. سأملك كل أولئك السحرة وسيركع تحت قدميَّ الجميلتين كل الملوك والسحرة الذين يسيرون الملوك. 

يلقبونني بالزُهرة.. لأن حُسني بين كل النساء كحُسن الزهرة على سائر الكواكب السبعة.. ورجلان مثل "هاروت" و"ماروت" لابد أن لهما رغبات مثل كل الرجال.. مثل كل البشر.. وفي ذات ليلة يا "هازارد".. كان كل من في المغارة يغُط في سبات عميق.. خرجت من غرفتي المنحوتة في الصخر وليس على جسدي الجميل سوى ملاءة صغيرة تبدي أكثر مما تخفي.. إن "فينوس" آتية.. إن سيدة الأقمار السبعة آتية. 

مشيت في هذه المغارة بمحاذاة النبع إلى المكان الذي يُفترض أن يكون غرفة الساحرين.. لم تكن المرة الأولى التي سأرى فيها تلك الغرفة على أية حال.. فلي في هذا المكان ما يقرب من التسعة أشهر.. لكنها كانت المرة الأولى التي أمشي فيها وحدي في المغارة في هذا الوقت.. كانت هناك مشاعل معلقة على الجدران في أكثر من موضع لتضيء المغارة كل الوقت.. فلسنا ندري أفي نهار نحن أم ليل.. ظللت أمشي وأنا أضم ملاءتي الصغيرة على جسدي الفاتن. 

ولما اقتربت من غرفتهما سمعت تراتيلَ كثيرة بأصواتهما الجميلة.. ماذا يقول هذان الرجلان بالضبط وأي لغة هذه.. استجمعت أنفاسي ودخلت.. 

- هل يحرَّم على البشر في ناموسكم أن يتكاثروا؟ 
_57_

نظرا إليَّ بلا اكتراث.. يا إلهي إنهما يشعرانني أني نكرة .. ثم إنني أسقطت عن جسدي ثوب الحياء وظهرت أمامهما كما ولدتني أمي.. قلت إني أريد أن آخذ منهما مالم يأخذه بشر قبلي.. نظرا إلى وجهي.. فقط إلى وجهي.. ثم إن "هاروت" قال لي بهدوء جاد : 

- أن تذهبي عنا الآن هو خير لك.. لئلا يلعنك ربي في الملعونين. 

وقال "ماروت" في هدوءٍ أشد: 

- عودي إلى أوروك مدينة الفرات.. ولا تكفري كما كفر قومك. 

قلت في ثورة : 

- بكم قد كفرت وكفرت بربكم.. ما أنتما ببشر.. أنتما من قبيل الشياطين. 

وتبدلت الأرض غير الأرض ورأيت السماءَ لأول مرة.. لم تعد هناك كهوف ولا شقوق ولا "هاروت" ولا "ماروت".. إن هذا لسحر عظيم.. لا ليس هذا بسحر.. إنما هو معجزة.. جريت إلى بابل وليس على جسدي سوى ملاءة قصيرة تبدي أكثر مما تخفي. 

قال "هازارد" بغضبٍ: 

- ألم تمكثي سوى تسعة أشهر؟ وهل دونت ما تعلمت؟ 

قامت "فينوس" عن الأرض ونظرت إلى "هازارد" نظرة أنثوية تجيدها: 

- لقد استغلني الحثالة أمثالك من السحرة في أوروك ودوَّنوا عنِّي كل ما تعلمته ولم أجد نفسي بعدها سوى جثة مقطوعة الرأس.

ثم تحولت نظرتها الجميلة إلى نظرة مخيفة وقالت: 
_58_

- لقد أصبحت ملعونة إلى الأبد يا "هازارد".. لُعِنت مرتين.. مرة لما حاولت أن أفتن ملاكين كريمين.. ومرة لما كفرت بكل ما علماني ونقلته إلى الحثالة أمثالك في أوروك.

تراجع "هازارد" وفقد صرامته مع تقدمها الحثيث منه.. وكانت هذه فرصتها.. لابد أن يكون النكرومانسر قويًّا بما يكفي للسيطرة على الروح التي يود أن يستدعيها.. ولكنه لم يكن يدري.. لقد كانت "فينوس" غاضبة.. وملعونة.. ولقد مزقت روحه شر ممزق.. روحه التي صعدت مع ملائكة العذاب إلى السماء.. السماء التي برق فيها في تلك الليلة كوكبٌ ببريق أحمر جميل.. كوكب الزهرة. 

تمَّت 


***


_59_

تم عمل هذا الموقع بواسطة