"بابلو إسكوبار

العالم الرابع _173_ إنه الليل في هذا العالم السافل.. كنا نتحرك على "الكرولر" ببطء ينذر باقتراب شيء ما.. أدرت بيدي بكرة الراديو في لوحة التحكم والذي يشبه راديوهات التسعينات.. صوت الحشرجة المعروفة تتخللها أصوات أناس بعيدين يتحدثون .. وكلما أدرت البكرة أكثر اتضحت أصواتهم أكثر.. سمعنا موسيقى إخبارية مستعجلة جاء بعدها صوت رجل يقول بطريقة رتيبة : "هذا وقد أعلنت حكومة كولومبيا صباح هذا اليوم عن مكافأة قدرها عشرة ملايين دولار أمريكي لمن يمسك بذلك المجرم حيا أو ميتا.. المجرم الذي أحرق كولومبيا وقتل مئات الأبرياء بلا أي ذنب.. "بابلو إسكوبار".. تاجر المخدرات الأكثر ثراء والأشد قسوة والأعظم نجاحا في التاريخ بأكمله.. الرجل الذي يصَدر وحده نصف الكوكايين الموجود في العالم اليوم.. الرجل الـ.... توقفت "الكرولر" وانفتحت أبوابها وصمت الراديو فجأةً.. كنا ننظر إلى بوابة العالم الثاني.. الأمر لا يبشر بخير.. هناك أدخنة كثيرة تتصاعد في الجو وأصوات سيارات شرطة غاضبة.. وطائرات هليكوبتر تمشط الأجواء بقلق.. انفتحت البوابة.. ودخلت أنا وأنت وسط كل هذا.. هناك الكثير من الهرج والمرج بالداخل.. نحن في كولومبيا في بداية التسعينات.. ذلك المجرم الذي سمعت اسمه في الراديو منذ قليل.. بابلو إسكوبار.. إن العالم كله يبحث عن هذا الرجل اليوم.. وهذه ليست عبارة أدبية.. بل إنني أعنيها حرفيا.. دعني أجعل أجواء هذا العالم تشرح لك بنفسها. إن المشهد الذي واجهنا أول ما دخلنا كان مشهد مزدحما جدا.. للوهلة الأولى كانت هناك سيارات عسكرية كثيرة ورجال عسكريون كثر مختلفة أزياؤهم.. كلهم مشغولون .. وطائرات تحوم حولنا وحولهم.. ورجال تحقيقات ينحنون على الأرض كل حين يجمعون الأدلة.. هناك رجال عصابات مجرمون تمتلئ أجسادهم بالأوشام يمشون في مجموعات على الناحية الأخرى من الشارع.. لا أدري كيف يجتمع هؤلاء وهؤلاء في مكان واحد.. أولئك شرطة كما يبدو من هيئاتهم وهؤلاء مجرمون كما يبدو من أوشامهم.. والأهالي المذعورون ينظرون من شبابيكهم من وراء ستائرهم إلى هذا المهرجان.. الكل قد اجتمع اليوم في شوارع كولومبيا لأجل هدف واحد.. البحث عن رجل واحد وتصفيته.. "بابلو إسكوبار". _174_ دخلنا وسطهم أنا وأنت.. نحن أيضا هنا للبحث عن "بابلو إسكوبار" بالمناسبة.. لماذا نبحث عنه؟ لأننا في عالم المخدرات.. ولا تذكر المخدرات دون أن يذكر "بابلو".. الماستر كما يسميه أصحابه. تقدم معي في هذا الزحام.. تلك القوة من الرجال الضخام الأشداء بملابسهم العسكرية وخوذاتهم الواقية وأسلحتهم الكبيرة هناك هم دلتا فورس Delta Force .. أقوى فرقة عسكرية في الجيش الأمريكي.. وهي فرقة مدربة فقط للإمساك بأباطرة الإرهاب في نظر أمريكا.. مثل "بن لادن".. هذه الفرقة تمشط كولومبيا اليوم فقط للإمساك ببابلو إسكوبار.. والرجال ذوو المعاطف الزرقاء الذين ينحنون على الأرض كل حين ويتحدثون في خطورة لن أحتاج إلى تعريفك بهم لأن اسمهم مكتوب على ظهور معاطفهم.. F.B.I .. مكتب التحقيقات الفيدرالي.. وهم هنا لجمع الأدلة ومكافحة الإرهاب والقبض على بابلو أيضا. الطائرات الهليكوبتر المزعجة فوق رؤوسنا بداخلها رجال يرتدون ملابس عسكرية مموهة ويحيطون أنفسهم بكميات ضخمة من الأجهزة والأسلاك.. هذه فرقة أمريكية عسكرية متخصصة بالتعقب.. تدعى ال Centra Spike .. وهم يبحثون عن "بابلو" من الجو.. عبر تتبع الإشارات الملتقطة من الهواتف التي يمكن أن يستخدمها.. ويرسمون عبر هذه الإشارات خريطة تقريبية للموقع الذي ربما يكون فيه.. وخريطتهم تتطور تدريجا وتضيق مع كل تعقب ناجح. بجانب هؤلاء وهؤلاء هناك رجال يرتدون ملابس عسكرية سوداء خطرة المنظر.. فرقة Search Bloc العسكرية الكولومبية.. فقط أنزه وأكفأ وأقوى رجال الشرطة في كولومبيا هم من ينضمون لهذه الفرقة.. يجاورهم رجال بمعاطف زرقاء يشعرون بالخطورة وينحنون على الأرض كل حين أيضا مكتوب على ظهور معاطفهم كلمة DAS .. مكتب التحقيقات العسكري الكولومبي.. وهو مثل الـ FBI ولكن في كولومبيا.. هذا تعاون بين الحكومة الأمريكية بأخطر أجهزتها والحكومة الكولومبية بأخطر أجهزتها إذا.. هل عرفت درجة خطورة الرجل الذي نبحث عنه؟ على الجانب الآخر من الشارع كان هناك رجال ضخام.. يمسكون بأسواط وسكاكين.. تملأ أجسادهم الأوشام الإجرامية.. هؤلاء عصابة Los Pepes المنافسة لبابلو.. وهي عصابة دموية مجنونة هدفها الوصول إلى رأس "بابلو" عبر قتل وسلخ وتعذيب أي شخص كانت له علاقة به من قريب أو من بعيد.. ويظهر ذلك _175_ من الدماء التي تقطر من أسواطهم وسكاكينهم.. بابلو بالنسبة لهم حوت أكل كل شيء في السوق .. وتصفيته تخلي لهم الجو. ما جعل الأمر في غاية الجنون هو أن كل هؤلاء يمشطون كولومبيا منذ أكثر من سنة كاملة للبحث عن رجل واحد دون جدوى .. كان الرجل مثل الشبح.. اشتهر أمره عالميا وأصبحت وكالات الأنباء في جميع أنحاء العالم تتحدث عنه.. مما أغرى القتلة المحترفين وصائدي الجوائز من جميع أنحاء العالم بالسفر إلى كولومبيا للإطاحة برأسه الثمين.. لن تستغرب لو وجدت قتلة روسيين أو يابانيين يمشون حولنا.. بعض هؤلاء القتلة المحترفين جاء من أجل العشرة ملايين دولار.. وبعضهم جاء فقط لإطفاء شعلة التحدي التي أشعلها الأمر في روحه القناصة.. فكلما ازداد الهدف صعوبة ازدادت المتعة.. وازداد المجد.. كان هذا باختصار تفسير كل ذلك الزحام الذي رأيناه في المشهد الأول. اقتربنا من أحد الحوائط.. صورة "بابلو إسكوبار" مع كلام كثير عن أنه المطلوب الأمني رقم واحد في العالم اليوم وعن الجائزة المعروضة على رأسه.. نظرنا أنا وأنت إلى وجهه بفضول حقيقي لنرى الرجل الذي قلب العالم كله هكذا.. بدا وكأن عيوننا قد اندهشت قليلًا.. كان رجل وسيما بملامح هادئة ونظرة ساخرة مميزة. اقتربت الأجواء بنا من الصورة وتموهت كل الموجودات حولها حتى لم نعد نرى أي شيء تقريبا عدا الصورة.. ثم نظر لنا "بابلو" من داخل الصورة وابتسم ابتسامة بزاوية فمه تحرك معها شاربه المميز.. ودخلت أجواؤنا في أجوائه ببطء.. كان يبدو وكأننا قفزنا إلى داخل الصورة. *** كان "بابلو" واقفا في غرفة في الطابق الثاني لأحد البيوت.. مبتسما تلك الابتسامة التي ابتسمها لنا في الصورة.. كان بكامل أناقته وبجانبه أخوه "روبيرتو" يحدثه في أمر ما.. كان "روبيرتو" يقول له: تعرف أنني أحبك "بابلو".. ما تريد أن تقوم به هو شيء في غاية الجنون .. أتفهم أنك تريد الاحتفال بعيد ميلادك اليوم.. لا مشكلة لدي.. أما أن تأمرني أن أجري اتصالاتي لأحضر لك فرقة موسيقية كاملة لتعزف لك هنا في هذا المكان المطلق السرية فهي خطوة حمقاء.. لأن أول ما سيفعلونه بعد أن يخرجوا من هنا هو أن يبلغوا عنك الشرطة.. إن العالم كله يبحث عنك الآن. _176_ قال له "بابلو" بهدوء ولا مبالاة: إن "بابلو إسكوبار" سعيد في هذا اليوم.. وسيحتفل رغما عن أنوف الجميع. قال أخوه: لا تحلم أصلا أن هناك فرقة موسيقية ستوافق على أن تأتي إلى هنا أنت لا تدري ما الذي... قطع حديثه فجأة صوت عزف احترافي يأتي من الطابق السفلي... اتسعت ابتسامة "بابلو" واتسعت عينا "روبيرتو" وهو يقول : ما هذا؟! ا إذًا فقد أتيت بهم بالفعل.. فليكن يا "بابلو".. فليكن.. لقد سئمت من جنونك وعدم تقديرك لخطورة موقفك دائما.. أنا سأحزم حقائبي وأرحل من هنا. لم يعلق "بابلو" وأخذ يدندن باللحن الذي تعزفه الفرقة من الأسفل وخرج من الغرفة نازلا إليهم محييا بسعادة بالغة.. أهذا هو الرجل الذي يبحث عنه العالم اليوم؟ توقعته أكثر إجراما مما يبدو.. بدأ "روبيرتو" يحزم أغراضه بالفعل في حقيبة صغيرة وهو يسب عدة سبات كولومبية.. ثم أمسك بالحقيبة وشدها إليه بقسوة وفتح الباب ثم نزل على السلم.. كان "بابلو" بالأسفل جالسا وسط الفرقة مستمتعا بعزفهم يغني معهم ويدندن. بدت ملامح "روبيرتو" متجهمة وهو ينزل بغضب ويفكر في الخطوة التالية التي سيفعلها لتأمين أخيه المتهور ولم تأت في عقله فكرة أفضل من قتل جميع أعضاء الفرقة بعد أن ينتهوا.. لكن هؤلاء الأغبياء كيف وافقوا أصلًا وأتوا إلى هنا؟ قطعت أفكاره نظرة واحدة منه إلى الفرقة اتسعت عيناه بعدها في دهشة حقيقية.. لقد كان ما يراه أمامه هو آخر شيء يتوقعه في هذا العالم.. تلك الفرقة التي تعزف حول "بابلو".. كانت فرقة من الرجال الذين يرتدون النظارات السود الكبيرة.. كانت فرقة من العميان. لم يتمالك "روبيرتو" نفسه.. فانفجر في الضحك.. ووضع حقيبته على الأرض في سعادة ناظرا إلى بابلو نظرة لوم مرحة وانضم إلى الفرقة بجانب أخيه وأخذ يدندن معهم هو الآخر.. حقا إن فرقة من العميان لن يعرفوا إلى أين هم ذاهبون وأمام من يعزفون .. أخذ الجميع يغني أغنية " Happy Birthday to you " لبابلو بأصوات سعيدة ضاحكة.. وبعد أن انتهوا قام "بابلو" من مجلسه وقال: أيها السادة شكرًا لكم جزيلًا.. سعدت بوجودكم.. وإني أود أن أخبركم أمرا لا _177_ أدري كيف ستتقبلونه.. أنتم كنتم تعزفون اليوم في عيد ميلاد السيد "بابلو إسكوبار".. الذي هو أنا. وجم الجميع وارتعشت أطرافهم.. لكن "بابلو" تحدث معهم بصدق وطمأنهم تماما وأعطى كل واحد منهم في يده عشرين ألف دولار.. وغادروا المكان فرحين كلهم.. لم يكن منهم أي خوف.. كانوا عميانًا. بعد رحيلهم جلس "بابلو" على الأريكة متنهدا وأمسك بجهاز التحكم وشغل التلفزيون .. كان التلفزيون يعرض مشهدا من فيلم بالأبيض والأسود.. كان في المشهد رجل يرتدي معطفا أسودَ طويل وطاقية سوداء وملامحه غير واضحة من هذه الزاوية.. فجأة تموهت الصورة حول التلفزيون وأصبح الرجل ذو الطاقية وحده واضحا.. كان يمشي بخفة في إحدى المزارع.. بدا وكأن كل شيء حولنا فجأة يتحول إلى الأبيض والأسود ثم أخذتنا الأجواء أخذا إلى ذلك الرجل داخل التلفزيون. *** بدا وكأننا انتقلنا إلى داخل فيلم قديم بكل تلك الأجواء البيضاء والسوداء حولنا.. لكن هذا لم يكن فيلما.. بل لقد انتقلنا إلى الأربعينات.. ليست أربعينات القرن العشرين.. بل أربعينات القرن التاسع عشر.. أي كما نقولها بالأرقام 1840 .. كان ذلك الرجل ذو الطاقية والمعطف الطويل واقفا في أحد الحقول يشاهد من بعيد بعض المزارعين الذين يعملون بكد. إنهم سكان أمريكا الجنوبية.. وهم يعملون في مزارعهم وحقولهم ويمضغون شيئا ما تحت أسنانهم كلهم.. شيء يجعلهم يعملون ساعات طويلة دون كلل.. ذلك الشيء الذي يمضغونه.. إنها أوراق نبات الكوكا.. مصدر الكوكايين.. أو "هبة الآلهة" كما يسميها الأهالي هنا.. عندما تمضغ هذه الأوراق يتسرب الكوكايين منها إلى داخل جسدك ويعطيك قوة تجعلك قادرا على العمل ثلاثة أضعاف ما تقدر عليه عادة.. هو يشعل جسدك إشعالا ويحمس كل عضلتك للعمل.. هذه حقيقة علمية لا مبالغة فيها. و فجأة أظلم العالم حول الرجل ذي الطاقية وبدأت النيران تأكل الأجواء.. الاحتلال الإسباني والاكتشاف الأول لأمريكا الجنوبية.. كان احتلالا قاسيا جدا.. هناك رجل ما بملابس عسكرية يبدو متعجبا من ذلك الشيء الذي يمضغه الأهالي طيلة الوقت.. أرى واحدا من الأهالي يعطيه ورقة من أوراق الكوكا ليريه إياها.. الإسباني يمضغ هبة الآلهة.. تمر دقائق.. يتسرب الكوكايين إلى داخل _178_ جسده.. انظر إليه.. إنه يشعر بالسعادة ويخبط على كتف من أعطاه إياها وهو يضحك. لكن الإسبان خافوا من هذا الشيء الذي يمضغ.. هذا الشيء يعطي شجاعة وقوة حقيقية لمن يمضغه.. هذا الشيء يجعل الأهالي أكثر صعوبة في السيطرة عليهم.. لأجل هذا منع الإسبان مضغ هذا الشيء تماما وسموه بالنص أنه "رجس من عمل الشيطان" an evil agent of the devil .. لكن في مقابل هذا المنع لم يستطيع السكان العمل في المزارع أو في مناجم الذهب بكفاءة.. إن كفاءتهم انخفضت لأقل من النصف.. فاضطر الإسبان للسماح به مرة أخرى .. وبدأت الكنيسة الكاثوليكية الإسبانية تزرعه أيضا.. ثم بدأ تصديره من أمريكا الجنوبية إلى أوروبا. تموهت الأجواء حول الرجل ذي الطاقية مرة أخرى والذي لا أدري من هو بالضبط.. ثم زال التموه من حوله فرأيناه يمشي في أحد شوارع أوروبا.. لقد انتقل الكوكايين إلى هناك.. نرى إعلانا كبيرا على جدران أحد المنازل .. نوع جديد من الخمر نزل إلى السوق .. Vin Mariani .. مكتوب في الإعلان أنه ليس خمرا عاديا.. بل هو مزيج من الخمر والكوكايين.. وأنت حين تمزج هذين الشيئين يخرج لك مركب جديد.. مركب يؤدي إلى نشوة أكثر من الكوكايين العادي وإسكار أقل من الخمر العادي.. وقوة أعظم.. وثقة بالنفس لا حدود لها.. مشروب أصبح يستخدمه الجميع بلا استثناء في ستينات القرن التاسع عشر.. الـ 1860 .. حتى المفكرين و الكتاب اعجبوا به جدا .. آرثر كونان دويل.. جول فيرن .. ألكساندر داماس.. سيجموند فرويد.. كلهم كانوا يشربونه.. كان شيئا مثل السحر حقا. فجأة انقلبت كل أجوائنا إلى أجواء مشوشة تماما.. نظرنا حولنا.. هناك شيء غير طبيعي يحدث هنا.. فجأة تلونت الدنيا وتم جلبنا مرة أخرى إلى حيث يجلس "بابلو إسكوبار".. إن الرجل كان يغير قناة التلفزيون عبر الريموت... يبدو أن هذا هو ما أنهى وجودنا عند ذلك الرجل ذي الطاقية.. حقا لن نفهم هذا العالم أبدا.. نظرنا تلقائيا إلى التلفزيون لنرى القناة التي حول "بابلو" إليها. كانت إحدى القنوات الإخبارية.. كانوا يعرضون كلمة الرئيس الأمريكي "ريجان" في الحملة الشهيرة التي أطلقها منذ عدة أسابيع فقط.. حملة الحرب على المخدرات War On Drugs .. تلك الحرب التي أعلنتها أمريكا فجأة على كل الدول التي تصدر لها المخدرات وعلى رأسهم كولومبيا.. فجأة طلبت أمريكا رسميا من حكومة كولومبيا أن تسلم لها زعماء تجارة المخدرات الكولومبيين لتتم _179_ محاكمتهم وسجنهم في أمريكا.. وذلك حتى يوقفوا التدفق الرهيب من المخدرات الذي يدخل إلى الولايات المتحدة كل عام.. وبالطبع كان أكبر تاجر مخدرات في كولومبيا والعالم كله في ذلك الوقت هو "بابلو إسكوبار".. ولذلك كان هو المطلوب رقم واحد في هذه الحملة. ظل الرئيس "ريجان" يتحدث و"بابلو" ينظر له بغل حقيقي.. كان كل شيء يسير على ما يرام لسنوات وسنوات حتى قرر هذا الرئيس الأمريكي المتحذلق أن يقيم الحرب على الجميع هكذا.. ورغم أن "بابلو" كان قد اشترى ذمم أكابر الرجال في كولومبيا فإن أحدا منهم لم يطلعه على سر هذا التحول المفاجئ لأمريكا.. ما الذي تغير؟ لماذا هذه الحرب الشعواء المفاجِئة.. لا أحد كان يعرف الحقيقة وقتها.. بدأت الأجواء تتموه حول التلفزيون وتبقى صورة "ريجان" وحدها هي الواضحة وهو يتكلم.. واقتربت الأجواء من "ريجان".. والتفت "ريجان" لينظر إلينا.. اقتربنا منه ببطء حتى دخلنا إليه في مكانه. *** كان "ريجان" جالسًا في سيارة فاخرة جدا.. غرفة معيشة كاملة بأرائكها وستائرها بداخل سيارة.. يجلس بمواجهته نائبه "بوش" الأب.. وبجوارهم رجل أنيق وسيم يدعى "أوليفر نورث".. كان التاريخ في لوحة السيارة الفاخرة يشير إلى قبل سنة كاملة من إعلان "ريجان" للحرب على المخدرات.. كان "بوش" الأب يقول ل"نورث": هل تدري يا "نورث" أنك ستكون كبش فداء رائعا جدا في حال فشل هذه العملية التي اقترحتها علينا؟ قال له "نورث" بهدوء: وهل ظننت أنني أحمق حتى أقترح على أمريكا عملية كهذه لو أن فيها نسبة مخاطرة واحد في المائة؟ توقفت السيارة لحظات ونظرنا من نافذتها للخارج.. كانت هناك بوابة تنفتح لنا بهدوء لتدخل فيها سيارتنا الفاخرة.. وفور أن فتحت تلك البوابة ، رأينا منظرا عجيبا جميلا أبهر عيوننا كلنا.. حقل أفيون واسع على مد بصرنا.. زهور الأفيون كانت طويلة جدا وبيضاء ومتجاورة بشكل مبهر.. والأجمل أننا كنا نمشي بالسيارة وسط هذا الحقل متجهين إلى قصر عظيم أبيض اللون كان منظره بهيًا جدًا _180_ وسط هذا الكم من الزهور البيضاء الطويلة.. لاحظت أن الرئيس "ريجان" و"بوش" ينظران بانبهار من الشباك بينما بدا "نورث" هادئا ينظر إلى انبهارهما. إننا الآن نحن ورئيس الولايات المتحدة ونائبه ذاهبون لمقابلة زعيمة المخدرات الفاتنة "سونيا أتالا" في قصرها.. يقولون عنها أنها كانت أغنى وأقوى امرأة في العالم في الثمانينات.. يقولون عنها أنها هي التي كانت تحكم بوليفيا من وراء الستار.. يسمونها ملكة الكوكايين.. فكما أن "بابلو إسكوبار" هو ملك الكوكايين المسؤول عن نصف كوكايين العالم، فسونيا أتالا هي المسؤولة عن النصف الآخر.. كانت ضابطة في الجيش البوليفي ومعها وسام يشهد بأنها أفضل قناصة رأتها أوساط الجيش منذ قرون.. لكن "سونيا أتالا" كان لها لقب آخر تعرف به في أوساط العصابات.. لقب غريب نوعا ما.. يسمونها "ملكة الثلج".. سموها به لأنها تحب اللون الأبيض حبا جما.. حتى إنهم قالوا أنها احترفت بيع الكوكايين فقط لأنه أبيض. قبل أن نكمل وندخل هذا القصر الأبيض دعني أشرح لك سريعا ما نعيشه الآن حتى تزول علامة الاستفهام التي تكونت فوق رأسك وأنت تشاهد رئيس الولايات المتحدة يذهب لمقابلة زعيمة من زعماء المخدرات.. وحتى لا تتوه أثناء متابعتك للأحداث القادمة.. ركز قليلًا لأن ما سأقوله سيكون مُركزًا وصادمًا نوعًا ما.. سأعرفك السر وراء إعلان أمريكا الحرب على المخدرات هكذا فجأة.. السر الذي لم يكن يعلمه "بابلو إسكوبار" نفسه على عظم إمبراطوريته. الحكاية هي أن هناك حكومات شيوعية بدأت تبرز في الدول القريبة من أمريكا.. دول مثل بوليفيا ونيكاراجوا والسلفادور وجواتيمالا وكوبا.. هذه الحكومات الشيوعية كلها كانت خطرا كبيرا على أمريكا.. لأنها ببساطة شيوعية.. وشيوعية تعني أنها مدعومة مباشرة من روسيا. ولأن أمريكا تعشق أسلوب الطفيليات في هدم كل ما يحتمل أن يكون كيانا مستقرا يهدد وجودها.. فقد تولت أمريكا إنبات تنظيمات مضادة للشيوعية في كل دولة من تلك الدول الشيوعية.. كان الهدف الأساسي هو أن تبقى الصراعات دائرة كما هي في تلك الدول الشيوعية.. حتى لا تستقر تلك الدول بعد حين وتكون خطرا حقيقيا على أمريكا.. أهم تلك التنظيمات التي أنبتتها أمريكا كان التنظيم المحارب للحكومة الشيوعية في دولة نيكاراجوا.. ذلك التنظيم الثوري المسلح الذي أثار الكثير من الجدل و الذي أطلق عليه اسم الكونتراContras. _181_ روسيا لم تسكت على هذا التنظيم.. وتحركت بسرعة لأجل إجهاضه، فزودت حكومة نيكاراجوا الشيوعية بمبلغ خمسة بلايين دولار كبداية لمحاربة الكونترا.. ووعدتهم بالمزيد كل شهر حتى يتم القضاء على التنظيم تماما. كان على "ريجان" و"بوش" أن يجدا طريقة للرد على هذه الخطوة ودعم تنظيم الكونترا بأموال كثيرة جدا في وقت قصير جدا.. ولأن أمريكا كانت مشغولة في مئات الأشياء المكلفة الأخرى .. لم يكن أمام "ريجان" و"بوش" إلا أن يقبلا الاقتراح المجنون الذي عرضه عليهما الكولونيل الوسيم "نورث".. عرض للحصول على بلايين الدولارات في وقت قصير للغاية. اقتراح "نورث" كان كالتالي.. وركز معي في كل كلمة.. وكل اسم.. أن تشتري المخابرات الأمريكية خمسمائة طن من الكوكايين الخام من عصابة "روبيرتو سواريز" الشهيرة في بوليفيا.. تنقل المخابرات هذا الكوكايين الخام إلى معامل خاصة في بوليفيا تملكها زعيمة المخدرات الفاتنة "سونيا أتالا" لتحويله إلى كوكايين بودرة جاهز للاستخدام.. تنقل المخابرات الأمريكية بودرة الكوكايين الجاهزة هذه إلى أمريكا ليبيعونها هناك لشبكة مخدرات كبيرة في أمريكا هي شبكة الإخوة "أوشوا".. عملية الشراء ثم التجهيز في المعامل البوليفية ثم النقل لأمريكا ثم البيع ستحتاج إلى حوالي سنة لأن الكمية ضخمة جدا.. وبالتالي سيتم نقلها على دفعات أسبوعية بإشراف وتأمين وتعتيم كامل من المخابرات الأمريكية.. هذه الدفعات عند بيعها ستربح منها أمريكا بلايين شهرية لا حصر لها.. هذه البلايين ستكون من نصيب تنظيم الكونترا.. لدعمهم بالسلاح والتجهيزات. باختصار، كان اقتراح "نورث" هو أن تتحول المخابرات الأمريكية CIA لأكبر عصابة مخدرات في التاريخ تشتري خمسمائة طن كوكايين من بوليفيا وتدخله إلى أمريكا وتبيعه هناك وتكسب نقودا تدعم بها الكونترا.. المشكلة أنه كان على "بوش" و"ريجان" أن يفعل هذا كله في الخفاء.. لأن الكونجرس لن يوافق على شيء كهذا أبدا. *** نعود إلى حقل الزهور البيضاء والقصر الأبيض.. نزلنا من السيارة ومشينا ناحية القصر.. الباب نفسه لونه أبيض.. ذوق هذه السيدة راق جدا بالمناسبة.. _182_ كل شيء هنا فاخر جدًا.. وأبيض جدًا.. لوهلة ظننا أننا في الجنة.. دخلنا للقصر المهيب.. كما توقعت، كان اللون الأبيض طاغيًا على الأثاث والستائر وتماثيل المرمر والرخام بالداخل.. وفي خضم كل هذا البياض خرجت لنا "سونيا". أول شيء سيلفت نظرك في "سونيا " عندما تراها لأول وهلة هو ذلك الشعور الذي يأتيك بأنها فتاة في العشرينات.. اللافت في الموضوع أن "سونيا" كانت أغنى وأقوى امرأة على وجه الأرض وقتها أيام الثمانينات.. ستقول لنفسك في أول وهلة، كيف وصلت هذه الصغيرة البريئة لكل هذا؟! ولكن حين تتحدث إليك "سونيا " سرعان ما سيزول شعورك الأول بالدهشة ويحل محله شعور بعدم الاطمئنان.. إن هذه الفتاة في صوتها بحة تشعر فيها بقسوة وبرودة لا حد لهما.. لست أميل إلى المبالغة لكن هذا ما شعرت به للوهلة الأولى.. كما أن ملابسها الجلدية البيضاء الفاخرة جدًا وكل الأبيض الذي حولها يعمق شعورك بالبرودة. قالت "سونيا" فجأة للرئيس "ريجان" بدون مقدمات أو سلام وبصوت هو للأفعى أقرب: يراودني سؤال كنت أود أن أسأله لأي رئيس دولة أقابله يوما، هل تسمح لي سيدي الرئيس؟ قال "ريجان" باهتمام: بالطبع. قالت "سونيا" وهي تضيق عينيها الرماديتين الباردتين: هل شعوبكم حمقى لهذه الدرجة؟ نظر لها "ريجان" بتساؤل مندهش فأكملت قائلة: هل حقا تظن الشعوب في هذا العالم أن حكوماتهم تحارب المخدرات؟ هل يظنون حقا أن أي حكومة في هذا العالم تحارب المخدرات فعليا؟ المخدرات هي ثاني أكبر تجارة في العالم، دخل اقتصادي رهيب للدولة.. هل حقا يظنون أن الحكومة تحاربها؟ ألم يفطنوا بعد أن الحكومات هي التي تمرر المخدرات إليها بقدر معلوم وتكسب منها بقدر معلوم؟! قال "ريجان" بابتسامة: _183_ من قال لك هذا أيتها الجميلة؟ الحكومات تحارب المخدرات طبعا.. لكن ليس كل المخدرات.. إنما نحارب المخدرات التي يتناقلها التجار الصغار.. حتى لا يزعجوا التجار الكبار.. تجار المخدرات الكبار يكسبون بلايين لا حصر لها.. وما يكسبونه يغسلونه بطرق كثيرة حتى يدخلوه في البنوك بصورة رسمية.. خمسمائة بليون دولار تدخل لبنوكنا كل سنة من تجارة المخدرات.. كثير من البنوك تقوم قواعدها على أموال تجار المخدرات المغسولة هذه.. لأنهم يوفرون سيولة رهيبة مستمرة غير منقطعة للبنك.. وطالما البنوك تستفيد فاقتصاد الدولة يستفيد.. نحن دائما نقول أننا نبذل جهدنا لمحاربة تجار المخدرات الكبار.. لكن تجديننا في نفس الوقت حين نجد معهم بلايين يريدون غسلها وإدخالها للبنوك.. فنحن نسهل أمورهم.. هذه بلايين.. فائدة للدولة. بدا بريق عيني "سونيا" معجبا بكلام الرئيس وقالت: ظننتك ستتحدث بالهراء المعتاد وتقول أن الحكومة تبذل ما بوسعها لمحاربة المخدرات لكن التجار يطورون من أساليبهم.. فلا تنقطع المخدرات من أي دولة أبدا. قال "ريجان" بنبرة حكيمة: الحكاية هي أن شعوبنا لا يدرون شيئا وليست لديهم الرفاهية الذهنية أصلا للتفكير في مثل هذه الأمور.. كل إنسان هنا منشغل في كيفية البقاء حيا في هذه الغابة التي صنعها لهم النظام.. يولد الواحد منهم ليجري في الغابة منذ صغره.. يجري لئلا يرسب في المدرسة بكل ضغطها وتوترها.. يجري لئلا يرسب في الجامعة بكل تعقيداتها وأساتذتها.. يجري ليحصل على وظيفة براتب جيد.. يجري ليتزوج.. يجري ليربي أطفاله.. ثم يجري ليتعالج حتى يطيل فترة بقائه بضع سنين في هذه الدنيا.. ثم يجري ليموت.. صدقيني ليست لديه الرفاهية ليفكر في مثل هذه الأمور. قالت "سونيا" وهي تشير إلى عقلها: تورط الدول بديهي باستخدام هذا.. هل يعقل أن دولة بكامل أجهزتها العسكرية والرقابية والبنكية، تمر من تحت أنفها بلايين الدولارات هكذا كل شهر من شهور السنة في تجارة المخدرات؟ لا أعرف كيف يمكن لشخص أن يصدق هذا؟! تدخل "نورث" قائلًا: _184_ إن سيدي الرئيس يعرف تماما أنك يا "سونيا" أكبر تاجرة مخدرات في العالم تقريبا وبغض النظر عن البلايين التي تستفيد منها البنوك.. فأنت لديك شبكة كاملة من المرتشين في كافة مراكز الحكومة.. مدراء شرطة يأخذون قسطهم الشهري ليغضوا الطرف.. مدراء مطارات يأخذون قسطهم الشهري ليغضوا الطرف.. قضاة يأخذون قسطهم الشهري ليغضوا الطرف.. أنت تشترين "أطرف" الحكومة كلها.. البنوك مستفيدة منك .. وأشخاص مهمون في الحكومة أيضا مستفيدون منك .. كيف يعقل أن يحاربوك ؟ وبالمناسبة نحن هنا لنتباحث بشأن الأطنان التي سنوردها إلى معاملك والتي.. بدا وكأن أنوار المكان قد خفتت فجأة و خفتت الأصوات فجأة.. نظرنا إلى النافذة.. أصبح يتعاقب فيها الليل والنهار بسرعة.. عدنا لننظر إلى "سونيا" والآخرين لنجد أوضاع وقوفهم قد تغيرت.. حيث أصبحت "سونيا" جالسة على الأريكة تنظر إلى بعض الأوراق واضعة ساقا على ساق وحولها الثلاثة رجال يتحدثون معها.. تغيرت ملابسهم جميعا عما كانت.. لقد تقدم الزمن بنا سنتين كاملتين.. هذا المشهد هو ما حدث في هذه الغرفة مع نفس الشخصيات بعد سنتين من المشهد الأول. كانت "سونيا" تقول : والآن قد بلغ الكوكايين الذي تاجرتم فيه حوالي ألف طن.. كنتم تتحدثون عن خمسمائة في البداية.. تحياتي سيادة الرئيس لقد دعمت تنظيم الكونترا.. لكنك أصبحت أكبر تاجر مخدرات في العالم.. أنت أكبر مني الآن. ابتسم الرئيس "ريجان" ابتسامة غامضة وصمت بينما قال "بوش": ليست المشكلة في الألف طن فقط.. المشكلة أننا في سبيل نقل هذه الكمية كلها، أصبح لنا طريق آمن معتاد يوصل الألف طن خاصتنا من بوليفيا إلى مقر عصابة الإخوة "أوشوا" في أمريكا.. تكمن المشكلة في أن الإخوة "أوشوا" أصبحوا يستخدمون هذا الطريق الآمن في نقل الكوكايين الخاص بهم هم أيضا إلى أمريكا.. فتم إغراق بلدنا بما هو أكثر بكثير من ألف طن من الكوكايين.. وبالتالي رخص سعره في أمريكا وأصبح متاحا للكل.. وتحول الأمر إلى وباء اجتاح أمريكا كلها في أقل من سنة.. وباء الكوكايين. ضحكت "سونيا" كالأفعى وقالت: إن أكثر ما يضحكني في الموضوع هو ظهورك في التلفزيون سيدي الرئيس بعد _185_ أن أتخمت أمريكا كلها بالكوكايين.. ثم أصبحت تظهر وتتحدث في التليفزيون بحكمة عن المخدرات وكيف أنها خطر قومي على الولايات المتحدة.. وأعلنت عن حملة War On Drugs التي صاحبتها حملة إعلانية ضخمة.. إعلانات يتحدث فيها رجال الشوارع وينظرون للكاميرا وينصحون الأمة بكلمة بليغة.. "فقط قل لا" Just say no .. ولا يدري أحد أنك أنت السبب في هذا الوباء.. ألم أقل لك يا سيدي أن شعوبكم حمقى. قال الرئيس "ريجان": هذه الحملة وهذه الكلمات لم تكن تكفي.. كان لا بد أن نغطي على فعلتنا هذه بشكل عملي.. لأجل هذا أعلنّا الحرب على تجار المخدرات الكولومبيين وكأنهم هم سبب هذا الوباء.. جعلناهم كبش الفداء.. وأرسلنا أكفأ قواتنا للقبض عليهم في بلدهم. *** خفتت الأضواء والأصوات مرة أخرى .. هناك تغير آخر في الزمن يحدث الآن.. انتقلنا بضعة شهور إلى الأمام.. نظرنا إلى "سونيا" والرئيس وصاحبيه.. الكل متوتر جدا وهم ينظرون إلى شاشة التلفاز التي تعرض أخبارا عاجلة من كولومبيا.. كان هناك رجل واحد جن جنونه من إعلان هذه الحرب على المخدرات.. وجن جنونه أكثر لصدور القانون الأمريكي بتسليم تجار المخدرات الكولومبيين إلى أمريكا للمحاكمة.. رجل واحد كان يعرف أن كل هذه الحرب الدائرة في كولومبيا هي لأجل الإمساك به هو.. لأنه أكبر تاجر مخدرات في العالم.. رجل واحد هو "بابلو إسكوبار". لكن ما لم يكن يعرفه هو أن الإمساك به وقتله سيكون تعويضا رهيبا تقدمه أمريكا لشعبها بعد أن أغرقته في الكوكايين.. لكن يبدو أن ذلك الرجل ليس سهل.. ها هو ذا يفجر تفجيرا جديدا إرهابيا في كولومبيا الآن.. لم يكن تفجيرا عاديا هذه المرة.. لقد تخطى كل الحدود.. لقد فجر "بابلو إسكوبار" قبل دقائق وزارة العدل الكولومبية كلها.. والتي يطلق عليها قصر العدالة Palace Of Justice .. فجرها بكل القضاة الذين كانوا بداخلها. قال الرئيس "ريجان" بغل واضح: لست أفهم كيف يفعل هذا بنا رجل واحد.. مخابراتنا وقواتنا الخاصة ومحققينا وأجهزتنا ورجال العصابات والقتلة المحترفين من جميع أنحاء العالم.. _186_ كلهم يبحثون عنه منذ سنة.. وما زال قادرا على التفجير هنا وهناك.. وهذه المرة جرؤ على.. قاطعته "سونيا" بصوت بارد: لأنكم حمقى. نظر لها الجميع بدهشة وقال "ريجان": ماذا تقولين؟ ماذا تقصـ... قاطعته مرة أخرى: مع احترامي لكل قواتكم ومخابراتكم.. لكنكم جميعا أغبياء.. لا يفل الحديد إلا الحديد.. تاجر المخدرات لا يصل إليه إلا تاجر مخدرات مثله. قال لها "نورث": هراء.. إن تجار المخدرات أيضا يبحثون عنه مثلنا منذ سنة كاملة بلا جدوى. قالت "سونيا" بذلك الصوت ذو البحة المقلقة: لأنهم لا يكافئونه.. قلت لا يصل إليه إلا من هو مثله.. وليس مثل "بابلو إسكوبار" أحد سواي في هذا العالم.. أنا الوحيدة التي أفهم كيف يعمل وأعرف كيف يهرب منكم جميعا.. وكيف يذيقكم ما يذيقكم.. ولو كنت مكانه لفعلت مثله وربما أكثر.. لأنكم أغبياء. قال "بوش" الأب: إذًا ماذا تنتظرين؟ الحرب دائرة هناك.. يمكننا أن ندعمك بكل ما تطلبين. ضيقت "سونيا" عينيها وقالت: أنتظر فشلكم.. لا طعم للنجاح في أمر ما إلا بعد أن يفشل به الآخرون.. وبعد فشلكم أعدكم أن تزين رأس "بابلو" هذا طلقة فضية من بندقيتي القناصة. نظر لها "ريجان" بدهشة حقيقية: قناصة؟ هل أنت قناصة؟ قالت له "سونيا": ولم العجب سيدي الرئيس.. ألا تدري أن أعظم من مسك القناصة في العالم النساء؟ نحن أطول بالا وأكثر تركيزا وأدق ملاحظة. _187_ قال لها "نورث": هراء.. أنتن لـ.. قاطعته "سونيا" وهي تشير إلى صورة كبيرة على الجدار لامرأة فاتنة ترتدي زيا عسكريا وقالت: "لودميلا بافيلتشينكو".. روسية.. أذاقت قوات هتلر الويل في الحرب العالمية الثانية.. كانوا يسمونها Lady Death . ثم أشارت بسرعة لصورة أخرى مقابلة لها وقالت: "روزا شانينا".. روسية أيضا.. ابنة تسعة عشر عاما فقط.. أول امرأة قناصة تمنح وسام المجد. كان الجميع صامتا ينظرون إلى "سونيا".. لاحظوا أنها تعلق صور الكثير من الفتيات القناصات هنا وهناك.. هذه المرأة تعشق القناصة حقا.. قالت "سونيا" بنرجسية: حان الوقت لأن تروا قناصة محترفة أخرى .. لكن هذه المرة من بوليفيا.. قناصة ستثبت لكم أنكم مهرجون .. قناصة ستصل إلى رأس غريمكم الوسيم هذا في خلل أيام معدودات. نظرنا إلى التلفزيون .. ما زال يعرض صور "بابلو إسكوبار" في ركن الشاشة ويعرض النيران الرهيبة التي اندلعت في قصر العدالة.. نيران تجمعت حولها الكثير من قوات الإطفاء يحاولون إطفاءها بل جدوى. مرة أخرى تموهت الدنيا حول التلفزيون .. ولم نعد نرى تقريبا سوى الشاشة والنيران التي يصورها ووجه "بابلو" الساخر.. بدأت الأجواء تقترب من النيران أكثر وأكثر.. حتى بدا وكأننا دخلنا إلى وسط النيران.. وعلى الفور تحول المكان غير المكان.. و.. *** فجأة وجدنا أنفسنا تحت السرير وفوقنا مرتبة من مراتب السرير تغطينا وملاءات تخفي وجودنا تماما.. بجانبنا كان "بابلو إسكوبار" لكنه هنا صغير لم يكمل الخامسة من عمره بعد وبجانبه أخوه "روبيرتو" الذي يكبره بسنة واحدة وأخته "جلوريا" الصغيرة.. أخرجت رأسي من بين الملاءات لأرى ما الأمر.. كان باب الغرفة يشتعل بنيران رهيبة.. وهناك صرخات رجال كثيرين يحاولون كسره من الخارج.. ويقسمون بكل غال أنهم سيدخلون لقص رؤوسنا. _188_ لقد أخذنا مشهد النيران في التلفزيون إلى مشهد نيران آخر من طفولة "بابلو".. طفولة قضاها في فترة اشتعلت فيها الحرب الأهلية بين الليبراليين والمحافظين في كولومبيا.. كان الحل الوحيد أمامك في تلك الأيام هو أن تغلق عليك باب بيتك ليلا وتتظاهر أنك ميت. كانوا يأتون إلى المنازل ويقتلون أهلها ويرمون جثثهم خارجها.. من هم الذين يأتون ؟ لن تدري أبدا.. ما زالت الضربات على الباب أمامنا تتصاعد وتتصاعد.. حتى أصبح صوتها على الباب منذرا بكسره..وفجأة انكسر الباب.. ودخل علينا أكثر من عشرين رجل غاضب.. سمعنا طلقات غزيرة جدا توقعنا بعدها أن نسمع صوت ارتطامها بأثاث المنزل الخشبي فوقنا.. لكننا سمعنا أصوات تساقط الرجال وصرخاتهم.. كانت الطلقات قادمة من خلفهم.. طلقات الجيش الكولومبي.. في الدقائق التالية كنا جميعا خارجين من المنزل نمشي في صف من الناجين من المنازل الأخرى يحيط بنا رجال الجيش. كان "بابلو" الصغير يبدو مندهشا أكثر منه خائفا.. كانت هناك جثث مرمية على المزاريب وجثث أخرى معلقة على أعمدة الإنارة.. إن عصابات "الكوزميروس" قد شبّت النار في معظم الجثث.. وبقت رائحة اللحم المحترق تزكم أنوفنا. بين كل هؤلاء الناجين كان هناك رجل بدا شكله عجيبا نوعا ما.. كان يرتدي معطفًا أسودَ طويلًا وطاقية سوداء ولا يبدو جزعا بل يبدو نظيفا لامعا.. كان يمشي بتؤدة إلى جوار "بابلو" وأخيه.. أليس هذا هو الرجل الذي دخلنا له في التلفزيون ذات مرة وكانت الأجواء بالأبيض والأسود؟ نعم إنه هو. كان الظلام شديدا ونحن نمشي.. لا يضيء طريقنا سوى نيران المنازل المحترقة خلفنا.. نيران تراقص مزيدا من النيران.. مرة أخرى تموهت الأجواء كلها حتى لم نعد نرى سوى ذلك الرجل ذي الطاقية وحده دون غيره.. ومرة أخرى أخذنا هذا العالم إلى عالم آخر يخص هذا الرجل.. عالم كل شيء فيه أبيض وأسود. *** ذلك الرجل ذو الطاقية يتجرع الـ Vin Mariani بنشوة لا مثيل لها.. ليس هناك أحلى من شراب يجمع الخمر والكوكايين.. نحن في الـ 1860 .. دخل الرجل إحدى الصيدليات.. دخلنا وراءه.. اشترى الرجل شيئين من هنا.. وها هو يخرج من الصيدلية ويفتح الشيء الأول في عجالة.. إنه علبة صغيرة فيها بودرة.. اسم شركة _189_ الأدوية المصنعة يبدو مألوفا لنا.. Park Davis .. الرجل يفتح علبة البودرة الصغيرة.. ثم يضعها على أنفه ويستنشقها استنشاقا.. إنها كوكايين.. في تلك الأيام كان الكوكايين يباع في الصيدليات لأي أحد.. بل إن إعلان الشركة عنه وقتها كان بليغا جدا.. كانوا يقولون "إنه سيجعل الجبان شجاعا وسيجعل الصامت بليغا وسيجعل المتألم لا يتألم". أخذ الرجل العلبة الثانية التي اشتراها.. كانت علبة شراب سعال.. الشركة تبدو مألوفة أيضا.. شركة Bayer الألمانية.. والدواء اسمه "هيروين".. اتسعت عيوننا.. هيروين؟ الرجل يفتح علبة الشراب ويشرب الزجاجة كاملة.. ومثل هذا كان يفعله سكان أوروبا كلهم.. حتى النساء والأطفال.. الكوكايين والهيروين كانا شيئين رائعين يحبهما الناس.. وكانا ينتهيان من السوق فور نزولهما بأيام.. هذا الرجل ذو الطاقية يرينا أشياء عجيبة حقًا. ظللنا نمشي وراءه.. الصورة تموهت من حوله ثم زال تموهها لنجد أنفسنا قد سافرنا من أوروبا إلى أمريكا.. تحديدا إلى ولاية أتلنتا.. وهناك إعلان على الجدار.. الـ French Wine Coca .. نوع جديد من الخمر في أمريكا.. كان هناك صيدلي في أتلنتا اسمه الدكتور "بيمبرتون".. رأى الأعاجيب التي يفعلها خمر الـ Vin Mariani في أوروبا فأحب أن يصنع المستحضر الخاص به في أمريكا والذي يعتمد على نفس الفكرة.. الكوكايين مع الخمر.. في كل زجاجة خمر من خمره كان يضع ما يعادل خطًا من الكوكايين.. وحين أقول "خطا" فأنا أعني ذلك الخط الذي يصنعه المدمنون بالأمواس هذه الأيام حين يجعلون البودرة على هيئة خطوط يستنشقونها واحدا وراء الآخر. كان مكتوبا في الإعلان عنه أنه المشروب الذي سيجلب لك اللذة والبهجة والذكاء.. وحقا كان مشروبه يفعل هذا.. المشروب السحري الذي غش تركيبته من الـ Vin Mariani كان يباع بشكل كبير جدا في أتلنتا فقط ولم يخرج خارجها لأن الرجل لم يكن قد أنشأ له شركة كبيرة بعد. وبغض النظر عن "بيمبرتون" وتركيبته في أتلنتا فإن الكوكايين نفسه كان قد انتشر في أمريكا كلها وعشقته أمريكا جدا.. نرى ذلك الرجل ذا الطاقية الآن يدخل إلى أحد الهايبر ماركتس الشهيرة.. Sears & Roebuck .. ووقف في الداخل أمام إعلان لفت أنظارنا حقا.. حقيبة بلاستيكية صغيرة يعلنون عنها بقولهم "هدية الضيافة للأصدقاء" A Welcome Present for Friends at the Front .. كانت حقيبة فيها كوكايين وهيروين ومحاقن وإبر.. هكذا كانت تباع بكل فخر.. _190_ لو أردت أن تقضي مع أصدقائك ليلة جميلة مليئة بالنشوة.. فهذه الحقيبة هي ما ستحتاجه.. هذا الرجل اشترى تلك الحقيبة وخرج من الهايبر ماركت وفتحها في الشارع وبدأ يستخدم ما فيها بحماس. وفجأة وبدافع من بعض الحركات الإصلاحية نزل قرار في أتلنتا بتحريم الخمر في هذه الولاية تماما.. كان هذا في ثمانينات القرن التاسع عشر.. الـ 1880 كما نقولها بالأرقام.. فاضطر الدكتور "بيمبرتون" إلى إجراء تعديل في تركيبته الخمرية السحرية.. فأزال الخمر تماما من التركيبة ووضع بدلا منه ما ء محلى بالسكر.. فأصبح ماء مسكر وكوكايين.. وغير اسم المنتج ووضع له اسما جديدا.. كوكا كولا... وفجأة تحولت الزجاجة التي في يد الرجل ذي الطاقية إلى زجاجة كوكا كولا.. نظر إليها باستغراب ثم شرب منها.. كان منتشيا.. وهذا طبيعي.. فكوكاكولا تلك الأيام كان فيها خط من الكوكايين في كل زجاجة. تلونت الدنيا تدريجيا وعدنا فجأة إلى حيثما كنا قبل أن نأتي إلى هنا.. أين كنا؟ كنا عند "بابلو" الصغير وهو يمشي مع الناجين ووراءهم منازلهم المحترقة.. وقبل حتى أن نلتقط أنفاسنا.. وفور أن نظرنا إلى تلك النيران.. تموهت الدنيا حولها وأصبح كل ما نراه هو نار مشتعلة.. نار أخذتنا إلى نار أخرى .. في مكان آخر. *** هذا العالم تنقلاته سريعة جدا ألا ترى هذا.. كنا نقف أمام مقلب قمامة يحترق .. كان يحترق ويحرق معه جميع المنازل التي تحيط به.. كانت منازل لفقراء معدمين.. كانوا يستفيدون من هذه القمامة ببيع الأشياء التي فيها.. كانوا يعيشون على خير القمامة.. والآن هي تحترق أمام أعينهم.. وصوت احتراق قلوبهم يغلب على صوت النيران في الأجواء.. كان العديد منهم يبكون حسرة على منازلهم.. وعلى قمامتهم. كان هناك عدة مسؤولين يقفون وسطا لأهالي بينما يطفئ رجال المطافئ النيران.. المسؤولون يثرثرون ويعدون الفقراء كالعادة.. الفقراء يستمعون لهم في إحباط.. ووسط كل هذا توقفت سيارة سوداء فاخرة جدا ونزل منها الرجل.. "بابلو إسكوبار".. كان هذا قبل الحرب التي أعلنتها أمريكا على تجار المخدرات.. ترك الفقراء كل المسؤولين الذين كانوا يحدثونهم وتجمعوا كلهم حول "بابلو".. كان هذا شيئا عجيبا.. أليس من المفترض أنه مجرم؟ على الفور تعاقد "بابلو" مع شركة عقارية كبيرة وبنى لهؤلاء الفقراء البسطاء _191_ أربعمائة بيت صغير جميل سلمهم إياهم واحدا واحدا.. وها نحن نرى هذه البيوت الآن مبنية بدلا من مقلب القمامة.. ثم رأينا نفس الناس متجمعين حول "بابلو" في امتنان حقيقي.. الناس هنا تعشق "بابلو إسكوبار" لو لم تكن تعلم.. هذا الرجل ينفق من ثروته الكثير جدا لمساعدة فقراء بلدته.. معظم البيوت في دولة كولومبيا بكافة أرجائها لو دخلتها ستجد فيها صورة "بابلو" معلقة.. سيقولون لك أنه الرجل الذي أكرمهم. لقد خدم الكثير جدا من الناس خدمات جليلة.. الناس الذين لا وظيفة لهم كانوا يذهبون لبابلو.. فيعطيهم راتبا شهريا ويكلف رجاله أن يبحثوا لهم عن عمل.. الشباب الذين لا يستطيعون دفع مصاريفهم التعليمية... يدفعها لهم "بابلو" كاملة.. مرضى السرطان والإيدز أو أي مرض آخر.. يدفع لهم مصاريف علاجهم.. ويعين موظفين مخصوصين حتى يتأكد من أن جميع من يأتيه طلبا للنقود هو فعل يحتاجها.. في الأعياد مثل الكريسماس كان يعين موظفات مخصوصات يذهبن لشراء الكثير جدا من ألعاب الأطفال والحلوى ويوزعنها على الأطفال.. خمسة آلاف لعبة توزع في كل عيد.. كان فلاحو كولومبيا يسمونه "روبن هود" بسبب كل تلك الهدايا التي يغرقهم بها طيلة الوقت. كان "بابلو" رجل طيب القلب حنونا وقاسيا وعنيفا جدا.. لا تدري كيف جمع هذا بشري واحد.. البعض كان يعتبره قديسا.. والبعض كان يعتبره وحشا رهيبا دمويا.. تتذكر كل الأشياء الرائعة التي فعلها بأمواله.. ثم تتذكر كل الأشياء الشنيعة والقتل والتفجير الذي فعله.. تقول عنه منظمة فوربس أنه سابع أغنى رجل في العالم.. لكنهم لم يستطيعوا تقدير ثروته الحقيقية أبدا.. لأن الكثير جدا منها كان مخبأ في جدران كثير من البيوت التي يملكها. كان "بابلو" واقفا والفقراء حوله فرحون لا يعرفون كيف يعبرون له عن سعادتهم.. وكان هناك أطفال يلعبون بالكرة في ملعب صغير بناه لهم بابلو وسط البيوت الصغيرة.. كان "بابلو" شاردا ينظر إلى الكرة.. وعلى الفور تموهت الموجودات كلها وبقت الكرة وحدها واضحة.. ثم زال التموه من حول الكرة لنجد أنفسنا في مكان آخر.. وعند كرة أخرى .. وأطفال يلعبون بها في شارع آخر.. نرى بينهم "بابلو" وهو ابن عشر سنين.. ونرى أخاه "روبيرتو" بجانبه.. كان معهم ستة أطفال آخرون.. دعني أعرفك.. هؤلاء الثلاثة النظيفون نوعا ما مقارنة بالباقين هم الإخوة "أوشوا" Ochoa Brothers .. هؤلاء لمَّا كبروا صاروا أكبر عصابة مخدرات في أمريكا.. ألا تذكرهم من حديث نيكسون وسونيا؟ _192_ أما ذلك الفتى هناك والذي تبدو على وجهه صبغة الإجرام هو "جاتشا" Jose Rodriguez Gacha .. لقد تحول "جاتشا" إلى مجرم عديم الرحمة لما كبر.. كان ساديا.. ترأس واحدة من أكبر منظمات المخدرات في أمريكا اللاتينية. وانظر هناك إلى ذلك الفتى ذي الشعر الطويل الذي يجري بالكرة.. اسمه "ليهدار" Carlos Lehdar .. وهو من أعز أصدقاء "بابلو" ومن أكبر زعماء المخدرات في كولومبيا. وأخيرا ذلك النحيل هناك هو El Mugro أي "القذارة".. ولا أدري لماذا اختاروا له هذا الاسم.. لم يصبح "القذارة" زعيم مخدرات هو الآخر.. لكنه أصبح الحارس الشخصي لـ"بابلو" فيما بعد. باختصار.. كنا نشاهد مباراة كرة قدم بين أكبر زعماء تجارة المخدرات في العالم.. إن أشكالهم لا يبدو عليها ذلك أبدا.. مثلهم مثل أي أطفال يتصايحون ويلعبون ويتدافعون. فجأة جاءت سيارة شرطة وتوقفت بجانب الصغار ونزل منها شرطي ممتلئ الجسم.. أخذ منهم الكرة وعاتبهم بعنف.. لم يفعل تجار المخدرات الأطفال شيئا.. لكن "بابلو" الصغير جمعهم إليه ثم اتفق معهم أنهم سيرمون حصى على سيارة الشرطة لو أتت مرة أخرى وأوقفت مباراتهم.. كان لدى "بابلو" حس قيادي منذ صغره.. وبالفعل أتت سيارة الشرطة مرة أخرى .. واستقبلها الأطفال بالحصى حتى كسروا زجاجها.. وعلى الفور جرى الأطفال وجرت الشرطة وراءهم حتى أمسكت بهم وساقتهم إلى القسم.. قال لهم الضابط الكبير مدير القسم: هل تعرفون ماذا سأفعل بكم؟ ستذهبون إلى السجن.. أتدرون ما هو السجن؟ إنه المكان الذي سيعلمكم الأدب الذي لم يعلمه لكم أهلكم. هنا رد عليه "بابلو" وقد كان أصغر الأطفال الموجودين سنا: نحن لم نفعل شيئا خاطئا.. لقد تعبنا من هؤلاء الرجال الذين يأتون كل حين ويأخذون كرتنا.. ما مشكلتهم بالضبط.. الزجاج؟ يمكننا أن ندفع لهم ثمن الزجاج. كان صغيرا لكنه لم يجد في نفسه أي خوف للتحدث إلى مدير القسم بهذا الصوت القوي .. لم يكن أحد يدري بأن "بابلو" سيحكم هذه المدينة يوما ما.. وسيشتري كل مدراء الشرطة هؤلاء.. وأنه سينشئ منظمة كبيرة تضم منظمات كل رفاقه هؤلاء.. منظمة تدعى "ميديلين" Medelin .. منظمة تضم منظمة "بابلو" ومنظمة "جاتشا" ومنظمة "ليهدار" وتشارك في بعض الأعمال مع منظمة الإخوة _193_ "أوشوا".. كانت منظمة "ميديلين" هي أكبر منظمة مخدرات في العالم.. حتى أتى ذلك القرار الأمريكي.. فاختفى كل رؤوسها الستة وأصبح الجميع يبحثون عنهم بحثا محموما بلا جدوى .. مخابرات وقوات وعصابات.. ثم أتت لحظة انقلبت الموازين كلها رأسا على عقب... لحظة انضمت فيها "سونيا أتالا" إلى قافلة البحث. *** اقتربت الصورة من ذلك النحيل الذي يدعى "القذارة".. وجدنا وجهه النحيل قد انقلب فجأة وتبدلت بنا الأجواء كلها لنجد "القذارة" مقلوبا مربوطة إحدى قدميه بهليكوبتر يتدلى منها وهي تطير عاليا بعصبية وتطلق النار علينا.. نحن الذين وجدنا أنفسنا فجأة مختبئين مع "بابلو" وأخيه وراء أحد الجدران.. كنا نرى الهليكوبتر ولا ترانا.. كانوا يعلقون "القذراة" بهذا الشكل وهناك من يهدده بأنه إن لم يخبر عن مكاننا سيقطعون عنه الحبل. كان الحبل طويل متدليا من الهليكوبتر التي تطير على مستوى مرتفع جدا.. والنحيل "القذارة" معلق فيه ويساق يمينا وشمالا.. رأينا امرأة برزت من الهليكوتر.. امرأة ترتدي زيا أنيقا أبيض اللون جلديا.. كان "القذارة" ينظر لها ويصرخ ويبلغها بمكاننا.. مثله مثل القذارة حقا.. كانت هذه هي "سونيا أتالا".. التي أمسكت قناصتها بسرعة وأطلقتها بدون انتظار ثانية واحدة.. أصابت طلقتها الحبل الذي كان يمسك بالقذارة فسقط.. وربما يكون قد مات لا ندري .. لكن أمطارا من الرصاصات نزلت على المكان الذي كنا نختبئ فيه.. لكننا نجحنا في الهرب. بدت "سونيا" عصبية جدا واقتربت الأجواء من عينيها الرماديتين الجميلتين.. التي ضيقتهما وأغلقت إحداهما.. تموهت الدنيا ودخلنا إلى عينيها وخرجنا لنرى ما تراه.. انتقلنا بضعة أيام إلى الأمام.. كانت "سونيا" تنظر من منظار بندقيتها هذه المرة إلى "جاتشا".. كان يتحدث مع ابنه المراهق "فريدي" في إحدى المزارع.. ونيران حولهما في كل مكان.. وهناك قوة قوامها حوالي ألف رجل ما بين جيش وشرطة كلها تمشط المزرعة بحثا عن "جاتشا".. نجحت "سونيا" في التوصل لمكان "جاتشا" بخطة بسيطة.. أن تقبض الحكومة على ابنه المراهق "فريدي" بأي تهمة غبية لا صحة لها.. وتبقيه في السجن فترة طويلة يلقى فيها أسوأ أنواع المعاملة.. ثم تخرجه فجأة.. وبعد أن تخرجه كانت تعلم أنه سيذهب لمقابلة أبيه بطريقة ما.. فهي تعرف هؤلاء الكولومبيين جيدا.. هم يقدسون العائلة جدا ولو كانوا أعتى مجرمين. _194_ وبالفعل توجه "فريدي" لمقابلة أبيه في إحدى المزارع.. ليجدوا السماء قد أسقطت عليهم جنودا.. "سونيا" كانت تحتفظ لنفسها بمكان الضحيتين.. وكانت تنظر لهما مليا من قناصتها.. ثم حسمت قرارها لما رأت "جاتشا" يعاتب ولده ويحتضنه في مشهد أبوي .. وهنا انطلقت من قناصة "سونيا" طلقة فضية أصابت رأس "فريدي" الصغير.. ورأت في منظار قناصتها كيف جن جنون "جاتشا".. كان ينظر هنا وهناك محاولا تحديد مكانها.. ثم إنه فعل شيئا عجيبا جدا.. أخرج فجأة قنبلة يدوية عادية.. ولوح بها وهو يتحدث بحديث لا تسمعه من هذا البعد طبعا.. لكن واضح أنه سباب.. ثم نزع "جاتشا" فتيل القنبلة.. ووضعها في فمه.. فانفجرت في وجهه وقتلته على الفور.. وهنا أرخت "سونيا" زمام قناصتها وأظهرت عيناها الجميلتان تعبيرا يقول أنها كانت تقصد ما حدث كما حدث.. وأنها سعيدة جدا لهذا. إن دخول "سونيا" إلى الساحة كان مميتًا بالنسبة لعصابة "ميديلين".. وما هي إلا أيام وسلم الإخوة "أوشوا" أنفسهم للشرطة.. ولأن "أوشوا" وإخوته متعاملين مع الحكومة الأمريكية منذ البداية فقد تم الاحتيال على القانون عن طريق محامين كبار وثغرات هنا وهناك.. وخرج "أوشوا" وإخوته بكفالة ضخمة دفعوها بكل بساطة.. ولم يبق إلا "بابلو" وأخوه وصديقه "ليهدار" ذو الشعر الطويل. *** كانت النيران في كل مكان حولنا في مزرعة "جاتشا".. كنا نريد الخروج منها إلى مشهد آخر.. رأينا ظلًا يقترب منا.. لم نتبينه جيدا وسط الدخان.. كنت أسعل سعالا شديدا.. اقترب الظل أكثر حتى عرفناه.. إنه سكوربيون .. رائع.. لقد أصابني هذا العالم بالدوار.. أشار لنا سكوربيون لنتبعه.. مشينا وسط أحراش ونيران وأدخنة وجثث.. وأدخلنا سكوربيون إلى أحد المباني وأغلق الباب الفولاذي خلفه.. ثم ابتسم لنا بهدوء.. كانت قاعة صغيرة مكيفة مليئة بأجهزة الكمبيوتر.. ما الذي كان يفعله "جاتشا" بقاعة كهذه؟ من الصعب أن تعرف الآن. _195_

تم عمل هذا الموقع بواسطة